التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ما الذي نعرفهُ عن اقتصَاد المدرسَة؟


 
عائشة السيفي


 


صدرَ قبلَ شهرين ، تقرير التنافسيّة الاقتصاديّة عن المنتدى الاقتصادي العالمي لعام 2016 و 2017 القائم على عدد من المقومات الرئيسية التي تحدد مؤشر التنافسية منها مؤشرات الفساد وقوة الرقابة ، أداء مؤسسات القطاع العام، الأمن القومي ، التعليم العالي ، التدريب الوظيفي ، الصحة إلى آخره .. لكنّ أهمّ من ذلك كلّه هو مؤشر التنافسية في جودة التعليم الابتدائي الذي يعدّ مقوّماً أساسياً لاستشراف مستقبل أي دولة وجديّتها في الاستثمار الحقيقي في الاقتصاد .. الاستثمار الحقيقي الذي يعني التالي: أن نبدأ من التعليم الأساسي!

لم نسمعِ الكثير عن التقرير لأنّ أغلب المؤشرات التي حصدَتها السلطنة غير مطمئنة وبالتالي فقد اعتَاد إعلامنا أن يلملم إخفاقاتنا بالسّكوت عوض طرحها على طاولةِ النّقاش وتحليلها تحليلاً جاداً .. ورغم أننا حصدنا المركز 66 عامّةً في التنافسيَة الاقتصاديّة فإنّ وضعنَا كان أكثر سوءاً إذا ما بدأنا من الأساس: التعليم الابتدائي.

لم يكُن طبعاً من المدهش أن نرى عُمان في المركز الـ78 حاصدةً 3.9 من أصل 6.7 المؤشر الأعلى الذي تصدّرته فنلندا .. الدولة الحلم في التعليم الأساسي. وكان ترتيبهَا السابع عربياً بعد قطر والامارات العربيّة المتحدة ، لبنان والبحرين والسّعوديّة.

حصدت عُمان هذا المركز بعدَ دولٍ مثل كينيا والفلبين واندونيسيَا وجامبيا، الهند وسيرلانكا التي يفصلنا عنها 46 مرتبة! دول يصل متوسطُ دخلِ الفرد فيها إلى 20% من متوسطِ دخل الفردِ العُمانيّ .. دول لا تزال تكافح الأمراض التي تخطيناها منذ زمن مثلَ الكوليرا والملاريا ، دول لا تزال تكافح في توفير الاحتياجاتِ الأساسيّة مثل الكهرباء و ماء الشرب النظيف .. دوَل نستقدمُ منها عاملاتِ منازلنا .. لكنّها على شحّ مواردها حصدَت مراتب متقدمَة في القائمَة. لأنّها تعرف أنّ بالإمكان للمعادلة أن تتغير وأنّ اقتصَاد الغد يقوم على معادلَة بسيطَة للغاية ولكن أساسيَة: اقتصاد المدرسَة.

هنالكَ الكثير من المراجعة التي نحتاجُها اليَوم .. الكثير من المراجعَة الضروريّة إذا كنا نرغبُ في استشراف الغدِ الذي سيحملُ لنا تحديّات جديدة لا يبدُو أنني نعيهَا بعدُ.

الآخرُون يتقدّمون .. الدوَل تعمَل.. جيرَاننا يستثمرُون الموارد النفطيّة اليوم  لغَايات مستدَامة هدفها تسليح الأجيَال في اليَوم الذي تجفّ فيه برك النفط بالتعلِيم والمعرفة الحقيقيّة. الكثيرُ نحتاجُ أن يقالَ اليَوم ولكنّ الأهمّ هو أن نتعلّم بصدق من تجارُب الآخرين. لن نتحدّث اليَوم عن الشأن العمانيّ ففيهِ يطولُ الحديث. ولكنّ استعراض تجاربِ الدول التي تصدّرت قائمة جودَة التعليم الأساسيّ ضروريّة لتصحيح الأخطاء ومعرفَة ما ينقصنَا. يستعرضُ أوسكَار ويليام خرُوت في مقالهِ الذي سأترجمهُ لكم في القادمِ من المقال والذي نشرهُ مؤخراً في Business Insider مقتطفَات من أهمّ ما يلفت في تجارب الدول التسعِ المتقدّمة في التعليم والتي من المدهش ألا نرى في قائمةِ أفضل الأنظمة التعليميّة بريطانيا أو الولاياتِ المتّحدة التي في واقع الحال بدأت مؤخراً في التواصل مع دول أخرى ناجحَة تعليمياً مثل فنلندا لاستجلاب تجاربهم في التعليم وتطبيقها في المدارِس الأمريكيّة.

في اليَابان مثلاً التي تحتلّ المرتبَة التاسعة في التعليم يتاحُ للطالب في المرحلَة المتوسطة أن يقرّر إكمال دراستهِ النظاميّة حتى الثانويّة أو الالتحاق مباشرةً بالجامعة بعد دخولِ سلسلة تقييمات وتحديات لفرزِ نخبَة النخبة والسّماح لهُم بالالتحاقِ بالجامعَة في سنّ الرابعَة عشرَة.

ورغمَ ثراءِ التجربَة اليابانيّة إلا أنّه كان من المدهش أن نرَى هذا العام دولَة أوروبيَة ناميَة جديدة في القائمة هي أستونيا. هذه الدولة الصغيرة التي تستثمر سنوياً 800 مليون يورو في نظامهَا التعليميّ. بدأت هذه الدولة قبل سنوَات قانوناً يلزم بتعليم ما قبل المدرسَة الذي يبدأ من عمر 18 شهراً للطفل حتى عمر السبع سنوَات ويهدفُ البرنامج إلى التركيز على بناء شخصيّة الطفل ومعرفتهِ الانسانيّة في سنٍ مبكرَة تهيئهُ لمرحلَة المدرسة. كمَا تتيحُ الخيار للطالبِ بعد تخرّجه من المرحلَة المتوسطة للالتحاق بمدارس التعليم المهنيّ أو المدارس ذات النظام التعليمي الاعتياديّ.

تصدّرت قطر المركزَ الأوّل عربياً وكانت الدولَة العربيّة الوحيدة التي تحصدُ مركزاً متقدماً ضمنَ الأنظمَة التعليميّة العشر الأفضل على مستوى العَالم. وقد استثمرت هذه الدولَة النفطيّة بقوّة في تعليمهَا ضمنَ تنفيذها لاستراتيجيّة قطر 2030 التي تركّز بشكلٍ رئيسي على إعداد أجيال قطريّة متعلّمة قادرَة على أن تعتمدَ على نفسها دونَ الحاجة للاستثمار النفطيّ ويبدُو أنّها تسيرُ على الطريقِ الصحيح.

وفي المركزِ الخَامسِ تصدّرت هولندَا التي تقدّم نظاماً تعليمياً مبتكراً قائماً على ضمَان سعَادَة طلابِها. إذ اعتبر الأطفال الهولنديُون الأكثر سعَادة عالمياً في 2013 ويعُود ذلك إلى أنّ نظام المدارس الهولنديّة يلزم المعلمين بعدمِ إعطاء واجبات على الإطلاق لطلابِ الابتدائي والقليل فقط في المرحلَة المتوسطَة للطلاب الأكثر ذكاءٍ بين أقرانهم وتبدأ المدارس الهولنديّة في تقديم حزمة واجبات منزليّة مخففة للغاية للطلاب في المرحلَة الثانويّة. كما تنقسمُ المدارسُ الهولنديّة إلى قسمين مدارس لا تقدّم المادّة الدينيّة ضمنَ موادها الدراسيّة وأخرى تطرحها ضمنَ منهجها المدرسي وذلك على اعتبَار أنّ الديانة خيار شخصيّ يخصّ الطفل وأبويه وحريّة معتقداتهم.

أمّا سنغافورة فقد حصدَت المركز الرابع عالمياً وهي من أبرز الدول المتقدّمة في نظامها التعليمي في الرياضيات والإحصاء. تتعاملُ سنغافورة بتنافسيّة عالية لمقارنةِ أداء طلابها مع دول أخرى متقدمَة وتخضعهم لبرامجِ تقييمٍ مستمرّة لمتابعَة أدائهم المدرسي ومقارنتهِ عالمياً. بالإضافة إلى ذلك فإنّ سنغافورة تتعاملُ مع الرياضيّات على اعتبارها أبعد من مجرّد أرقام وحسابات وتحرصُ على تقديم حزمٍ تعليميّة تذهب بالطلاب إلى فلسفَة الأرقام وزرعها زرعاً في نشأتهم المبكرَة. كما تقوم هذه الدولة الصناعيّة بتقديمِ حزمٍ مغريَة للغاية للمعلمين والمنخرطين في السلكِ التعليميّ على اعتبارهِ أحد أهم القطاعات التي تجتذبُ أفضل المواردِ البشريّة.

أما بلجيكَا فتتصدر المركز الثاني عالمياً وهي تؤسس لنظامٍ تعليميّ قائم على الاستثمار المبكّر في المواهب فمن عمرٍ صغيرٍ يمكن للطالب أن يقرّر الانخراط في مدارس تركّز على الفنون ويتابع نشأتهُ التعليميّة فيها أو مدارس الصنَاعات المهنيّة والحرفيّة التي تستقبلُ الأطفال جنباً إلى جنبٍ مع المدارسِ الحكوميّة كما تخصّص الحكومة البلجيكيّة ميزانيّة ضخمة للغايَة للاستثمار في القطاع التعليمي.

والحالُ لا يختلفُ عن سويسرَا التي تتصدّر قائمة أقوى الاقتصادَات العالميّة ولكنّ 5% فقط من طلابها يذهبُون إلى المدارس الخاصّة وينخرط الـ95% الباقون في مدَارس حكوميّة. تقدّم سويسرا خمسَ مناهج لغَات مختلفة لطلابها وتفرزهم بعدَ المرحلَة المتوسطَة بناءً على قدراتهم واتجاهاتها إلى صفوف ومدارس مختلفَة.

ويختتم ويليام خروت مقالهُ بفنلندا التي لم يكُن من الغريبِ أن تتصدّر المركزَ الأول بشكل متكرّر فالدولة الاسكندنافيّة لا تؤمن بنظام تقسيم الفصول الدراسيّة مما حقق أقلّ فرق عالمياً بين أضعف طالبٍ في الفصلِ الفنلندي والأكثر تفوقاً. وبالكَاد تفرضُ فنلندا أيّ واجبات منزليّة على طلاّبها كما لا تفرضُ عليهم أي امتحاناتٍ حتّى سنّ السادسَة عشرة.
هنالكَ الكثير حتماً مما يقالُ حين نغُوصُ في تجربَة كلّ دولة. كلّ دولة من هذهِ الدولة تمتلك تبايناً هائلاً جغرافياً ولغوياً واقتصادياً وانسانيّا ولكنّ ما يجمعها هوَ إدراكها بأنّ الانسانَ يأتي أوّلاً وأنّ كلّ موارد الطاقة والطبيعَة زائلة وما يبقَى في النهَاية هوَ الاستثمار في العقلِ البشريّ القادر على خلقِ المعجزات إذا استثمرنا فيه بشكلٍ صحيح. وحتماً لم تكن تجربتها قائمة على وزارة واحدَة أو مؤسسة تعليميّة ولكنّها حصَاد ليالٍ طويلَة من العمَل المضنِي بين مؤسسات التعليم والتخطيط والمجتمَع ومواردهِ البشريّة ولابدّ أنّها أدركَت أنّ اقتصادَات العالم تصعدُ وتهبط، تنجحُ وتفشل ولكنّ الحل الوحيد لحمَاية شعبها هو توفير تعليم قويّ لهم يسلحهُم بالمعرفَة ويهيئهم لرياحِ التقلبات الاقتصاديّة العاتية.

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

إذا تريدوا ملابس العيد، روحوا رقطوا (1)

5 قيم تعلمتُها من أميّ: غزالة بنت ناصر الكندية   عائشة السيفي صبيحَة يوم الأحد غسلتُ أمي وكفنتها مع أخواتي. جهزتُ لها لبسةً من حرير فأبلغتني المكفنةُ أن علي أن آتي بلبسة من قطن تخلو من الزركشة. اخترتُ لها أجمل ملابسها وبخرتُها كما كنت أبخر ملابسها لعشرات السنوات كل عيد. أذنتُ في أذنيها، وتأملت أصابعها المنفرجة وأنا أضع بينها الصندل. كانت كقطعة الحرير ببشرتها الصافية وكنت أحدثها: ما أجملك حيةً وما أجملك ميتة. كان مشهداً عظيماً لا أعرف كيف ألهمني الله لأعيشه. أعرفُ أنني كنت شاخصة العينين ولا أذكر أنني بكيت كثيرا.. كانت دموعي تنهمر بصمت إلى أن حملوها في الطارقة وتواروا عن الأنظار. لا أذكر كثيرا مما حدث بعدها فقد سقطتُ طريحة الفراش ليومين. ماتت أمي غزالة بنت ناصر الكندية بعد رحلة ثماني سنواتٍ ويزيد مع مرضٍ لعين اسمهُ ملتي سيستم أتروفي. ومنذ جرى تشخيصها، جُبنا بها أطباء العالم لعلنا نجدُ لها علاجاً فكانت النتيجة واحدة: إنه مرض نهايته الموت، الفارق فقط هو حتى متى سيعيش صاحبه. لسنواتٍ عاشت أمي وعشنا معها معاناةٍ مريرة لا يعلمها إلا الله ونحنُ نتأمل بعجزٍ شديد كيف كانت تنتقل من وهنٍ

اسميْ عائشَة . . وهذهِ حكايتيْ ! (1)

ملاحظَة للقارئ قبلَ الشّروعِ في القرَاءَة: عائشَة حياتهَا. . صفحة بيضَاء جداً ! أشاركُ قليلاً من بيَاضها إيَّاك وأودعُ الباقيْ لهَا ولمن تحبّ .. إذا كنتَ تحملُ مسبقاً أيةَّ "مخلّفات داخليَّة سوداء" فالرجَاء عدم القرَاءة حولَ عائشَة: عائشَة .. قد تكُون أنا أو قد تكُونُ أنتَ .. وليس بالضرُورَة أن تكُونَ من تقرأ لها الآنَ في هذهِ المدوّنة قد يتضمّنُ أدناهُ حكَاياتِي أنا .. وقد يكُون خليطاً من حكاياتِ صديقاتٍ أخريَات .. أجمعها في حياةٍ واحدَة حافلة تستحقُ أن يمتلكَ صاحبها حلماً جميلاً عائشَة التيْ أحكي عنها هنَا.. كائنٌ يحلمُ بحياةٍ جميلة رغمَ يقينها أنّ الحياة لن تكونَ ذلك بالضرُورة .. وهي فتاة ٌ بسيطَة جداً .. يحكيْ بعضهُم .. أنّها لا تزالُ طفلة ً ترفضُ أن تكبر .. ويقولونَ أنّها تحوَّلتْ إلى زوجةٍ عاديةٍ غارقةٍ في تفاصيلِ حياتهَا اليوميَّة بعد زواجها .. يقولُ بعضهمْ أن عائشَة لم تعُد تهتمّ كثيراً بمن حولهَا .. وأنّها تحوَّلتْ -كآلافِ البشر حولنا- إلى كائنٍ غير معنيّ بالضرورة بجدالاتنا الثقافيَّة اليوميَّة المملة .. التيْ قد أثيرها أنا أو أنتَ أو عبيد أو جوخة أو علياء من المثقفي

عن كُورونا، وفقر اللقاح، والشّعب العُمانيّ القنوع: أسئلة غير قنُوعة إطلاقاً

  تحذير: إن كنت لا تحب لغة الأرقام فلا تقرأ هذا المقال   في نُوفمبر 2020، سألتُ مارجي فان جوخ، رئيسَة وحدة المواصلات واللوجيستيات في المنتدى الاقتصادي في دافوس عن استقرائها لشكلِ السباق العَالمي نحوَ اللقاح فأجابتني بأنّ حربَ اللقاحات قد بدأتْ بالفعل وأنّ كل دولة ستكونُ معنية بشعبها فحسب، وأنّ ثلاث عوَامل ستحددُ أسبقية الدول في الحصول على اللقاح، أولاً: ذكاء السياسيين في كلّ دولة وحنكتهم الدبلوماسية ستوضع تحتَ الامتحان الحقيقي لاختبار مِرَاسهم في التفاوض على أكبر عدد من الجرعات مستغلةً علاقاتها الدولية وشبكة معارفها للحصول على أكبر كمية بأسرع وقت ممكن، ثانياً: قدرة فرقهِم الاستراتيجيّة على استقراء مستقبل إنتاج اللقاح وأيٍ من شركات إنتاج اللقاح ستنتجُ أولاً وبفعالية تحصين أكبر وثالثاً: قدرتها المالية التي ستحدد مقدرتها على المخاطرة بشراء لقاحات لم تعتمد بعد بناءً على استقرائها للمستقبل، (إنّها مقامرَة عليهم اتخاذها وإلا فالنتائج وخيمة). معربةً عن قلقها من أنّ المرحلة القادمة ستفتقد المساواة في توزيع اللقاح. (عائشة، إنهم يجوبون العالم -بينمَا نتحدّثُ- بملايين من الكاش لحجز اللق