التخطي إلى المحتوى الرئيسي

عنِ الحشيش وحكَايات "المحشِشين" ! (1)

لمْ تتم إجَازة هذا المقال للنشر في جريدَة الوطن

عائشَة السيفيّ

ufuq4ever@yahoo.com


لابدّ أن أياً منكُم أصدقائي القرّاء يتلقى كلّ يومٍ أو كل أسبوعٍ نكاتاً عن "المحششين" .. تتعدد النكات وتختلف المواضيع ويظلّ "المحشش" هو مدار النكَات وموضوعها .. نقرؤها ونضحك ونعيدُ إرسالها إلى العشرات .. وفي أغلبِ الأحيان نجدُ أن النكات تصوّر "المحشش" على أنّه انسان يلتقط أفكاراً غريبَة غير معتادة لا يستطيعُ الشخصُ العاديّ بقواه العقليّة الطبيعيّة أن يبتكرها .. فمثلاً قد يردك على ايميلك أسئلة في رسالة عنوَانها: "أسئلة لمحشش بس والله ذكيّة" .. وتقرأ الأسئلة : محشش يسأل إذا حبوب الخضروات تخفف من الوزن ليش ما خسّ الفيل؟ أو.. الصمغ شديد الفعاليّة لماذا لم يلتصق بالأنبوب الذي عبّأ فيه، إشارة ممنوع المشي على الحشائش المزروعة كيف تم غرسها بين الحشائش؟ إلى آخرها من الأسئلة الذكيّة والطريفة في نفس الوقت ..

وقد تردك رسالة هاتفيّة تقول: محشش داخل امتحان طب وسألوه: عرف الطفرة الوراثية؟ فيجيب المحشش: إذا مات الشايب وما تارك وراه ملايين يطفروا الورثة !

أو قد تردكَ على ايميلكَ صور رسُومات إبداعيّة مبتكرة على الطرق أو على السيارات .. وعنوان الايميل: صور لرسامين محششين بس إبداع !

فهل حقاً يرتبطُ الحشيش بالإبداع؟ وهل يعاني "المحشش" فعلاً من هذه الاضطرابات الذهنيّة والهلوسات التي تجعلهُ يتفاعل مع أسئلة من حوله ويتصرف بطريقة خارج الصندوق؟

يحكيْ لي أحد أقاربي أنهُ ذهبَ يوماً إلى حقل نفطٍ للعمل حيثُ يكثرُ هناك مدخّنو الحشيش الذينَ يمكثُون لأشهر في الصحراء فيمضون أوقات فراغهم هناك بتدخين الحشيش ..

يخبرني عن مهندسٍ قدم لأول مرةٍ إلى حقل النفط الذي يعملُ به قريبي وفي الأسبوع الأوّل من عمل المهندس الجديد علقَ أحد أصدقاء قريبي عن المهندس الجديد قائلاً: "أقطع ايدي إذا ما طلع هذا الشخص محشش" مشيراً إلى تعكّر مزاجهِ الشديد وإلى حالاته المزاجيّة الغريبة التي يمرّ بها إضافةً إلى انتشائه في بعض الأحيان ووضوح شعوره بالبهجة والسعادة المفرطَة أمام زملائهِ .. وقد علّق ذلك الصديق قائلاً أنه يعرف ذلك تماماً لأنه سبق وتعاطى الحشيش ويعرفُ تماماً الحالات المزاجيّة والذهنيّة التيْ يدخل فيها المحشش ..

عموماً .. بعد مضي شهرٍ من إقامة المهندس الجديد في حقل النفط ذلك همس لقريبي عن إدمانهِ للحشيش مخرجاً أمامه كيسة بلاستيكيّة مليئة بالحشيش ليدخّنها .. ثم أعقب قائلاً: أنه لا يستطيع قيادة السيارة دون أن يدخن سيجَارة حشيش وأنه يدخّن الحشيش أمام زوجته التيْ تظنّ أنه يدخن سجائر من ماركة معيّنة مختلفة عن ماركة السجائر الأخرى .. مضيفاً: أن زوجته تحبّ أن يدخن الحشيش-جاهلةً أنهُ كذلك- لأنّ رائحته أفضل من رائحة السجائر العاديّة بل إنّها أصبحت هي أيضاً تصاب بنوبات انتشاء غريبَة وأنه لاحظ في كثير الأحيان أنها حين تجلس معه لساعات وهو يدخّن الحشيش تضحك ضحكات هستيرية وتغرق في أمزجَة ذهنيّة غريبَة ..بالنظرِ إلى أن تدخين الحشيش لا يسبب الإدمان لمدخّنه فقط بل لمن يشمُون رائحة دخان الحشيش أيضاً ..

انتهتْ قصّة الحشيش هذهِ .. وحينَ كنتُ أستمعُ إليهَا تذكّرتُ مرةً مداخلة ً في برنامجٍ على قناةٍ مصريّة كان يناقش انتشار الحشيش في المجتمع المصريّ ثمّ انتقلُوا إلى تقريرٍ في الخليج يشيرُ إلى ازدياد تعاطي الخليجيين للحشيش خاصة ً بين الشباب .. وأنّ هنالكَ أفكار ومفاهيم خاطئة يتداولها الشباب من أبرزها أنّ الحشيش يقوّي القدرَة الجنسيّة للشباب لذا يعمدُون إلى تعاطيهِ وفي التقرير قالَ أحد الشباب الخليجيين أنّ من ضمن الهدايا التي تلقاها في زوَاجه هي لفافات من الحشيش أهداهَا له أحد أصدقائهِ طالباً منهُ أن يدّخنها قبل الدخُول بزوجتهِ في ليلة الزفاف لأنّها تقوّي القدرة الجنسيّة للشاب ..

مفاهِيم مغلوطة كهذه قد تساهِم في انتشَار الحشيش بصفتهِ منشطاً جنسياً بالنظر إلى أنّ العملة الرابحة اليوم لترويج أي منتجٍ للرجال هوَ صفة المقويّات الجنسيّة التيْ تمنح الرجل قدرَة جنسيّة فذّة .. على الرغمِ أنّ التقارير الطبيّة تثبتُ قطعاً أنّ من أهمّ الآثار السلبيّة للحشيش هو تأثيرهُ على الخلايا العصبيّة بجسد المتعاطي ما يسبب هبوطاً في التفاعل الجنسيّ لديهِ ..

هذهِ الفكرَة هيَ فكرَة قديمَة جداً وواردَة جداً في كتبِ التاريخِ فقدْ تحدّث كريستُوفر كولومبس الرحالة الذي حمَل في سفنه التيْ جابت المحيط الهنديّ .. عن نبتَة القنب الهنديّ التيْ يستخلصُ الحشيش منها بعدَ أن وجدَ السكَان المحليين يدخُنونها بشرَاهة زاعمِين أنّها تحفز القدرات الجنسيَّة وتمنح الشخص قدراتٍ ذهنيَّة عميقة .. واصفِينها بالنباتِ السحريّ ..

وقد عوملَ القنبُ فعلاً كنباتٍ سحريّ ذي مواصفاتٍ متعددة فحكَاياتهُ بدأت مع الصينيين الذينَ استعمَلوا بذُوره كغذاء في العَام 6000 قبل المِيلاد ثمّ سرعَان ما استعملُوه لصنَاعة النسيج والحبَال وفي العَام 2000قبل المِيلاد لجأ الصينيُون إلى نباتِ القنبِ بوصفهِ مستخلصاً عشبياً للعلاج من حالاتِ مرضٍ كثيرة ..

وتذكرُ مذكرَاتُ الدبلُوماسيين الأميركَان أنّ من ضمنِ الهدَايا التيْ تلقّتها الحكُومة الأميركيّة من الحكُومة العثمَانيّة إبان بدَايات العلاقات الدبلوماسيّة بينهُما هيَ لفافات من الحشيش أو "الماريجوَانا" المسمّى المنتشر لنبتَة الحشيش في العَالم الغربيّ ..

وتذكرُ المذكراتُ أنّ الأتراك المسلمين كانُوا من أهدُوا الحكومة الأميركيّة لفافات سجائر الحشيش على الرغمِ أنّ الإسلام يحظرُ على معتنقيهِ شربَ الكحُول إلا أنّ المسلمين كانُوا في الجانب الآخر يقبلُون بشدّة على تدخين الحشيش ..

لكنّ الحكُومة التركيّة لاحقاً حظرت ذلكَ بأمر من السلطَان مراد الرابع الذيْ أدرَك الآثار السلبيّة التي بدأ يتركها الحشيش على مواطنيهِ إلا أنّ القرار لم يوقفْ من رواج الحشيش الذي بدأ ينتشر في السوقِ السوداء ..

ولذا كانَ للأتراكِ الفضل "غير الحسن" في إدخال نبتَة الحشيش إلى الولايات المتّحدة والترويج لها بصفتهَا هديّة حكُوميّة ذات قيمَة واعتبارٍ عالٍ ..

وفي المقال القادِم سأحدّثكم يا أصدقائي عن الحشيش وعلاقتهِ بالإبداع والفنّ والعبقريّة وعن أبرز المحششين في العالم وعن تاريخِ المحششين في آثار الحضاراتِ القديمَة وحضُور الحشيش في تعاليم الديَانات القديمَة .. الحشيش ، تاريخٌ طويلٌ ومتعاقبٌ من الحضاراتِ والأجيَال البشريّة ومحشُشون من شتّى أصقاع العالم ومختلف الحضارات اختلفُوا في لغاتهم وعاداتهم وأديانهم واتفقُوا على "التحشيش" .. يا لهُ من قاسمٍ حضاريّ مثيرٍ للاهتمام !

تعليقات

  1. العزيزة عائشة
    عندما وصلت إلى منتصف المقال توقعت إنك شاهدت تقريرا عرض في إحدى القنوات المصرية أظنها (المحور )إن لم تخني الذاكرة ،حول علاقة الحشيش بالإبداع ، حيث إن الكثير من المبدعيين ، كتابا وفنانين اشتهر عنهم تعاطي الحشيش حتى أصبحت هناك فكرة تربط بين الحشيش والإبداع فبعض الفنانين أعترف بانه لا يستطيع ان يصعد إلى منصة المسرح إلى بعد أن ( يسلطن ) رأسه بالحشيش ، وبلغ هذا لدرجة أن هناك شائعات تقول : بأن سر منديل أم كلثوم هو الحشيش؟!

    مودّتي: مريم العدوي

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

إذا تريدوا ملابس العيد، روحوا رقطوا (1)

5 قيم تعلمتُها من أميّ: غزالة بنت ناصر الكندية   عائشة السيفي صبيحَة يوم الأحد غسلتُ أمي وكفنتها مع أخواتي. جهزتُ لها لبسةً من حرير فأبلغتني المكفنةُ أن علي أن آتي بلبسة من قطن تخلو من الزركشة. اخترتُ لها أجمل ملابسها وبخرتُها كما كنت أبخر ملابسها لعشرات السنوات كل عيد. أذنتُ في أذنيها، وتأملت أصابعها المنفرجة وأنا أضع بينها الصندل. كانت كقطعة الحرير ببشرتها الصافية وكنت أحدثها: ما أجملك حيةً وما أجملك ميتة. كان مشهداً عظيماً لا أعرف كيف ألهمني الله لأعيشه. أعرفُ أنني كنت شاخصة العينين ولا أذكر أنني بكيت كثيرا.. كانت دموعي تنهمر بصمت إلى أن حملوها في الطارقة وتواروا عن الأنظار. لا أذكر كثيرا مما حدث بعدها فقد سقطتُ طريحة الفراش ليومين. ماتت أمي غزالة بنت ناصر الكندية بعد رحلة ثماني سنواتٍ ويزيد مع مرضٍ لعين اسمهُ ملتي سيستم أتروفي. ومنذ جرى تشخيصها، جُبنا بها أطباء العالم لعلنا نجدُ لها علاجاً فكانت النتيجة واحدة: إنه مرض نهايته الموت، الفارق فقط هو حتى متى سيعيش صاحبه. لسنواتٍ عاشت أمي وعشنا معها معاناةٍ مريرة لا يعلمها إلا الله ونحنُ نتأمل بعجزٍ شديد كيف كانت تنتقل من وهنٍ

اسميْ عائشَة . . وهذهِ حكايتيْ ! (1)

ملاحظَة للقارئ قبلَ الشّروعِ في القرَاءَة: عائشَة حياتهَا. . صفحة بيضَاء جداً ! أشاركُ قليلاً من بيَاضها إيَّاك وأودعُ الباقيْ لهَا ولمن تحبّ .. إذا كنتَ تحملُ مسبقاً أيةَّ "مخلّفات داخليَّة سوداء" فالرجَاء عدم القرَاءة حولَ عائشَة: عائشَة .. قد تكُون أنا أو قد تكُونُ أنتَ .. وليس بالضرُورَة أن تكُونَ من تقرأ لها الآنَ في هذهِ المدوّنة قد يتضمّنُ أدناهُ حكَاياتِي أنا .. وقد يكُون خليطاً من حكاياتِ صديقاتٍ أخريَات .. أجمعها في حياةٍ واحدَة حافلة تستحقُ أن يمتلكَ صاحبها حلماً جميلاً عائشَة التيْ أحكي عنها هنَا.. كائنٌ يحلمُ بحياةٍ جميلة رغمَ يقينها أنّ الحياة لن تكونَ ذلك بالضرُورة .. وهي فتاة ٌ بسيطَة جداً .. يحكيْ بعضهُم .. أنّها لا تزالُ طفلة ً ترفضُ أن تكبر .. ويقولونَ أنّها تحوَّلتْ إلى زوجةٍ عاديةٍ غارقةٍ في تفاصيلِ حياتهَا اليوميَّة بعد زواجها .. يقولُ بعضهمْ أن عائشَة لم تعُد تهتمّ كثيراً بمن حولهَا .. وأنّها تحوَّلتْ -كآلافِ البشر حولنا- إلى كائنٍ غير معنيّ بالضرورة بجدالاتنا الثقافيَّة اليوميَّة المملة .. التيْ قد أثيرها أنا أو أنتَ أو عبيد أو جوخة أو علياء من المثقفي

عن كُورونا، وفقر اللقاح، والشّعب العُمانيّ القنوع: أسئلة غير قنُوعة إطلاقاً

  تحذير: إن كنت لا تحب لغة الأرقام فلا تقرأ هذا المقال   في نُوفمبر 2020، سألتُ مارجي فان جوخ، رئيسَة وحدة المواصلات واللوجيستيات في المنتدى الاقتصادي في دافوس عن استقرائها لشكلِ السباق العَالمي نحوَ اللقاح فأجابتني بأنّ حربَ اللقاحات قد بدأتْ بالفعل وأنّ كل دولة ستكونُ معنية بشعبها فحسب، وأنّ ثلاث عوَامل ستحددُ أسبقية الدول في الحصول على اللقاح، أولاً: ذكاء السياسيين في كلّ دولة وحنكتهم الدبلوماسية ستوضع تحتَ الامتحان الحقيقي لاختبار مِرَاسهم في التفاوض على أكبر عدد من الجرعات مستغلةً علاقاتها الدولية وشبكة معارفها للحصول على أكبر كمية بأسرع وقت ممكن، ثانياً: قدرة فرقهِم الاستراتيجيّة على استقراء مستقبل إنتاج اللقاح وأيٍ من شركات إنتاج اللقاح ستنتجُ أولاً وبفعالية تحصين أكبر وثالثاً: قدرتها المالية التي ستحدد مقدرتها على المخاطرة بشراء لقاحات لم تعتمد بعد بناءً على استقرائها للمستقبل، (إنّها مقامرَة عليهم اتخاذها وإلا فالنتائج وخيمة). معربةً عن قلقها من أنّ المرحلة القادمة ستفتقد المساواة في توزيع اللقاح. (عائشة، إنهم يجوبون العالم -بينمَا نتحدّثُ- بملايين من الكاش لحجز اللق