التخطي إلى المحتوى الرئيسي

وهُم يحسبُونَ أنّهم يحسنُون صُنعـَا!

حدثَ في إحدَى الشركاتِ التي تدرّبتُ بها..أنّ أحدَ زملائي البريطانيين في العملِ طلبَ أن تسكِّنه الشركَة ُ في "فيلا" بدلَ تسكينهِ في شقّة .. ورفضَ مديرنا ذلكَ وحينَ جاء ليحتجَّ لدى المدير –وهوَ بريطانيّ أيضاً- سألهُ المدير: من أيّ مدينةٍ في بريطانيا أنتَ؟ فردّ الموظّف: من ليفربول .. فقالَ لهُ المدير: في ليفربول .. هل تقيمُ في فيلا؟ فأجابهُ الموظّف: لا .. فقالَ لهُ: إذن لماذا تطلبُ فيلا هنَا .. وأنتَ تقيم لوحدك وتستلمُ علاوَة "العمل ما ورَاء البحار"، لو أنّك جئتَ مع عائلتكَ وأخذتْ منكَ هذهِ العلاوَة لأقمتَ في فيلا.. أما وأنتَ وحدك فلا ..

حينَ غادرَ الموظّف غاضباً قال لي مدِيري أنّه علم من لكنَةِ الرجل الانجليزيّة أنّه من الطبقَة الاجتماعيّة الدنيا في بريطانيا وعلمَ تماماً في أيّ الأحياء يقطنُ في ليفربُول.. ثمَ تابعَ قائلاً أنّ من أكبرِ الأخطاء أن نقنع أنفسنا باستحقاقِنا للحصُول على ما لا نستحقّه ..

قبلَ أن يأتي هذا المديرُ ... كانَ ثمّة مدير آخر قبله .. وكانَ الموظفونَ يتصرّفون في تلكَ الشركَة كيفَ يشاؤون .. أحدهُم اشترى لشقتهِ تلفزيوناً "بألفِ ريال" وآخر مهندس عربيّ كانَ يترجِمُ الرسائل العربيّة التي تردنا من الوزارات للمدير الذي لا يتحدث إلا بالانجليزيّة .. يترجمها بـ15ريال للورقَة حتّى وإن لم يتعدّ ما كتبَ بها سطران .. وحينَ يأتي موظفُون من خارج السلطنة ويقيمُوا لبضع أيّامٍ في فنادق الخمس نجوم التيْ توفّرها الشركَةُ لهم ، ويغادرُوا بفواتير بمئات الريالات بسبب مصاريف الشّراب الذي لا تعدّ الشركة مسؤولةً عن دفعهِ إلا أنها تتكفّل بدفعهِ عنهم ..

لم يكنْ يدهشنيْ التسيّب الذي كانَ يحدثُ بقدرِ ما كانَ يدهشنيْ هوَ أنّ جميعَ هؤلاءِ الموظفين كانوا يتصرّفون وكأنّهم يستحقُون ما يحصلُون عليه .. أنّ ذلك من حقهم وأنّ حرمانهم منهُ ظلمٌ له ..

وحينَ استبدل المدير بمديرٍ آخر بعد تدهور الأوضاع الاقتصاديّة ثارَ الموظفون نظراً لصرَامة الأخير في الانفاق .. وكنت مندهشَة ً للغاية .. كيفَ يبرر موظفٌ شراءهُ تلفزيوناً بألفِ ريال لشقتهِ .. والآخر الذي يستخدمُ سيّارة الشركة ذات الدفع الرباعي رغم أنهُ يستلم علاوة سيّارة .. كانَ يدهشنيْ جداً كيفَ أقنعُوا أنفسهم باستحقَاقهم لما سبق ..

كانَ ذلكَ هوَ تفسيري دائماً لتدهُور الأوضاع الاقتصاديّة في هذا الوطن .. وتفشي سيَاسة الفسَاد والمحسُوبيّة والسرقة .. نحنُ نؤمن دائماً أننا –ومهما كانت طرقنا ملتويَةً في الحصول على الشيء- نعتقدُ أننا نستحقُ ما نحصلُ عليهِ .. ما نسرقهُ .. ما نلطشهُ من أموَال العامّ والخاصّ .. نعتقدُ أننا "نحسنُ صنعاً" ونحنُ نفعلُ ما نفعلهُ ..

وما يدهشنيْ أكثر هوَ وصولِ هوسَ البعضِ على الاستيلاء على كلّ شيءٍ هو "مضاربتهم" لموظفيهم في كلّ صغيرة وكبيرة ..

المديرُ العامّ يوصّي بكم جرَام زيادة في الزعفران العُمانيّ المخصص للمديريّة الفلانيّة في الوزارة الفلانيّة .. حتى يصطحب "الزيادة" لزوجتهِ المصون لتطبخَ لهُ قهوَة الصبَاح ..

المدير العامّ الذي لا يعذر حتّى من "كرتُونة الكلينيكس" ليصطحبها للبيت .. المدير العامّ الذي يوصّي بمؤونة هيل تكفيهِ ل10أعوَام قادمة لتضييف زوّار مكتبهِ بالقهوَة ومكاتب المديريّة بأكملها حتّى يتمّ شحنُ الكميّة لاحقاً للمطبخ.. ليسَ مطبخ المديريّة بالتأكيد .. ولكن مطبخَ زوجَة المدير العام ..

الموظّف الميكانيكي الصغير في شركَة البترول المعروفة الذي يدخلُ في حربِ منافسَةٍ شرسةٍ مع زملائه في من سيسرّب قطع خردَة من ورشَة الشركَة أكثر ليبيعها بضعف سعرها في السوق ..

الموظّف الحكوميّ الذي لا يشتريْ أقلاماً لأبنائه .. لأنّ أقلام "الحكومة" أحلى و"أغوَى" ..

رئيس مكتب الوزير .. الذي يوصي في كلّ توقيع اتفاقيّة بشراءِ قلمين بثلاثمائة ريال .. القلم السحريّ الذي سيخطّ الوزيرُ عليهِ بتوقيعهِ في دقيقتين ويتبادل الابتسامات والمصافحة مع الطرف الآخر .. وتضيء فلاشات الكاميرات وما أن ينتهي الحدث الإعلاميّ "يركض" الموظّف ويخشّ القلمين السحريين في جيبِ "دشداشتهِ" ..

أعضاء مجلس الشورَى الذينَ اختفَوا عن ولاياتهم لسنوَات وحينَ اقتربت ساعَة الصّفر أمّوا الناس في المساجد .. عطفُوا على الصغير .. مدّوا يدهم من الباب الخلفي بمائة ريال لهذهِ العائلة .. كرتُون خضروات لتلكَ العائلة .. قمصَان رياضيّة وأحذية أديداس لفريق الكرَة المحليّ .. هؤلاء كانُوا يؤمنون أنّ "الإحسان" الذي نزلَ عليهم من السّماء إنّما هوَ لأنّهم دونَ غيرهم يستحقُون تمثيل الولاية .. ومن المبرر جداً أنّ عضو مجلس الشورى "الرَاشي" يُحَاسب وزيراً على الفسَاد .. لأنّه يستحق أن يمثّل الولاية وإن تعدّدت الطرق والوسَائل

حتّى المؤسسات الحكوميّة المفترض بها تقدِيم يد المساعدَة للمواطنين تدهورَت بسبب أنّ الجميعَ يؤمن أنّه يستحق منحَ الديوَان دونَ غيره .. أنّه أحقّ بذهاب "الغوازي" لجيبهِ بدل أن تذهب لجيُوب آخرين ..

ولأجلِ ذلكَ فقدَ الديوَان مثلاً قيمتهُ الحقيقيّة في مساعدَة "المحتاجين" الحقيقيين .. ووجدَ كثيرٌ من المتسلقين والوصوليين طريقهُم إليهِ .. لأننا حينَ نؤمنُ جميعاً أننا نستحقّ جميعاً! فلا يعودُ حينها بيننا من "لا يستحقّ المنحة" . .

موظّف الاسكان الذي يتاجرُ بالأرَاضي ويأخذ العمولات مقابل توزيعها على من يدفعُ "لهُ" أكثر .. هوَ أيضاً يعتقدُ أنّ تصرفه وكأنهُ ورثَ تلك الأراضي عن أبيه .. أن تصرفهُ ذلك سليم وأنّ ذلك من حقهِ!

المواطن الذي يصحُو من النومِ فجأةً في يومٍ ما ويقرر أن يستأجرَ عاملينِ آسيويين .. ليسوّرا سور أرضٍ مجاورة له ، ثمّ يقول للمحكمةِ حينَ تستدعيهِ: والدي –رحمهُ الله- كانَ يروّح "سح" قبلَ ستينَ عاماً في هذهِ الأرض! .. المواطن أيضاً يعتقدُ في داخلهِ أنّ هذهِ الأرض إرثُ أصيلٌ له من والدهِ المرحوم!

حتّى المثقفين الذينَ لبسُوا جبّة المدافعينَ عن حقوق المواطنين بينما استلموا في يومٍ ما وفي زمنٍ ما منحاً ديوانيّة بأربعَة أصفار .. فعلُوا ذلك لأنّهم يعتقدُون أنهم يستحقُون مساعدَة الديوان وأنّ مدّ يدهم لطلب المساعدَة الديوَانيّة لا يتنافى مع مدّ يدهم لـ"كفخ" الحكومة في الجانب المقابل .. حتّى وإن كانَ ذلك المثقّف يمتلك وظيفَة أجمل ما يكون ، وسيّارة أجمل ما يكون .. فإنه يؤمنُ في داخلهِ أنّه يستحقّ كمواطن مساعدَة الديوان .. في الوقتِ الذي ندخلُ فيهِ يومياً مواقع الانترنت ونقرأ عن عائلاتِ تعيشُ بعشرَة أفراد في غرفَة مساحة 4 في 4 متر ..

نقرأ قصص العائلاتِ التي لا تمتلك ترف امتلاك "مكيف تبريد" في الوقتِ الذي تتجاوزُ درجاتُ الحرارةِ لدينا الخمسينَ درجَة ً أحياناً ..

نرَى حولنا المعدمين والفقراء والمهمّشين .. لكننا نعتقدُ أننا –بطريقَةٍ أو بأخرى- نستحقّ ما نحصلُ عليه .. نستحقّه وإنْ لجأنا لقريبنا "ليضبّط لنا موضوع المساعدة" .. وإن مددنا بشويّة "بقشيش" للموظّف المسؤول .. وإن حصلنا على المنحَة قبلَ جارنا الذي طلبها قبلنا بعامين!

إذنْ .. إنْ كنّا جميعاً نعتقدُ أننا نستحقّ المساعدَة .. فمهلاً!! من لا يستحقّها إذن؟

حتّى كبار الحراميّة في البلد .. الوزراء الذينَ خرجَنا في اعتصاماتنا مطالبينَ بإقالتهم .. المسؤولين الذينَ استولوا على أكبر مشاريع البلد .. الهوَامير الذينَ مصّوا دماء الوطن قطرَة قطرَة .. جميعهم ربّما حينَ مدّوا يدهم على أوّل ريالٍ "بالحرام" إلى آخر ريالٍ قبلَ إقالتهم ، كانوا يعتقدُون في دواخلهم أنّهم يستحقُون ما يستولونَ عليه.. مهلاً! هم في دواخلهم لم يكُونوا يعتقدُون أنّهم يستولون على شيءٍ لا يملكونه .. بل كانوا يؤمنُون أن ذلكَ حقٌ لهم .. لهم لا لغيرهم ..

ليسَ هذا في ثقافة وطننا فحسب بل في أوطاننا العربيّة جميعاً .. هؤلاء الديكتاتورات الذينَ حكمُوا الشعُوب بقبضةٍ من حديد وأزهقوا أرواحَ شعوبهم من أجلِ أن يبقوا في كراسيهم آمنُوا دائماً أنّ موتَ الشّعب مبررٌ لبقائهم .. وأنّ من حقّهم أن يجزّوا أعناق الشعوب مقابلَ بقائهم في كراسيهم .. هم في دواخلهم يؤمنون تماماً أنهم على حقّ .. وأنّهم يستحقون .. وأنّهم الأفضل لهذا الشعب .. ولأجلِ ذلكَ لم يكنْ غريباً صراخ القذافي على الثوّار أثناء اعتقاله: ارحمُوني ارحمُوني، ألا تعرفُون الرحمَة.. كانَ الرجل في تلكَ اللحظة الواقعيّة جداً يؤمن أنّه كانَ رحيماً ونبيلاً مع شعبهِ .. ولعلّه حتى لحظَة مقتلهِ كان يؤمنُ أنّ سقوط 20ألف قتيلٍ ليبيّ خلال الثورة .. كانَ أمراً مبرراً لبقائهِ "كقائدٍ للثورة" ..

أتذكّر تماماً الآن باولو كويللو وهو يقولُ أنّ من أكبرِ أخطاءِ الانسان هو إيمانُهُ بأنّه يستحقّ الخير الذي يحصلُ عليهِ .. بينما لا يستحقّ ما يصيبهُ من شرّ!

لمْ يقذفْ بهذا الوطن إلى مستنقع العمَالة والمحسوبيّة و"اللصوصيّة" كما قذفَ بهِ إيمانُنا جميعاً بأننا نستحقّ ما نحصلُ عليهِ .. ما نسعَى إليه .. ما نأخذهُ "بالطيب أو بالغصب" ..

فقط حينَ يتعلّم كلٌ منا ما لهُ وما عليه .. حينَ يفصلُ الموظف بينَ مالهِ ومالِ الوزارة أو مال الشركة. حينَ يؤمنُ كلٌ منا أنّنا لا نستحقّ بالضرورةِ كلّ ما نحصلُ عليهِ .. حينها فقط ستختفي هذهِ الثقافة.. لكن هذا الوطنَ لن يغادرَ أبداً هذا المستنقع .. إن اجتمعَ شيئان .. مالٌ سائب ومواطنٌ يمدّ يدهُ على ذلك المال مؤمناً أنهُ يستحقّه دونَ غيره ..

خاتمَة:

"قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)"

سورَة الكهف

تعليقات

  1. فعلا , صارت السرقة عند البعض حق مكتسب,
    بارك الله فيكم وعسى ان يغير الله بكم حال الوطن الى ما هو احسن

    ردحذف
  2. لقد قلتي ما في نفسي ...لم أستطع أن أضيف أو أنقص شيئاً من هذا المقال ...لقد جاء بكل ما يحس الغيور ذو القلب النظيف في هذا الوطن.

    ردحذف
  3. راااائع, شكرا جزيلا على مقالك وأرجوك لا تحرمينا منها...لقد اشتقنا لك.
    لقد عبرتي عن ما يدور في خلدي كلما رأيت شيئا لا يعجبني في بلدي...لن تنصلح حال البلاد إن لم يصلح العمانيين من أنفسهم أولا.

    ردحذف
  4. المقال في منتهى الروعه وهذا ليس بجديد على الكاتبه، واقول من امن العقوبة اساء الادب، فعندما يكون المسؤول الذي يناط له تطبيق القانون، غارق في الفساد، يجب ان نقول على الدنيا السلام

    ردحذف
  5. ومن يفهمك أخت عائشة؟ الفساد موجود في انفسنا لما تنصلح انفسنا بتنصلح بلدنا، واذا ما شفنا انفسنا على حقيقنها صعب انا نسعى لتغييرها ، انا فخورة انه في احد مثلك يشوف ويفهم ويعبر عن اللي ما نقدر نعبر عنه احسنتي.

    ردحذف
  6. ما ذكرته مرتبط ارتباطا وثيقا بالمادية العاتية التي تجتاح مجتمعنا والاستغراق في الملذات والسعي الدؤوب لإروائها. حبذا لو استبدلنا تلك الثقافة بثقافة قليل تؤدي شكره خير من كثير لاتؤدي شكره، و قليل يكفيك خير من كثير يطغيك. وقبل ذلك مراقبة الله وأن يستحي أحدنا أن يراه الله متلبسا بمعصية ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    خالد الشعيلي

    ردحذف
  7. والله ابداااع ...
    اخيرا في مثقفين في عمان يكتب عن احوال الشعب والفساد,,, ملينا من مثقفي البلاستيك

    المثقف اللي ما يكتب في السياسة مثقف فااااشل

    ردحذف
  8. شكرا عائشة
    مقال رائع يحكي في طياته عالم الفساد في وطننا
    هذا الفيروس ينخر في هذا البلد الطيب
    وبدأ يهدم ما بدأ ببنائه السلطان قابوس من نهضة حقيقية.
    (وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) حتى قبل أن اقرأ مقالتك هذه، كنت اقرأ هذه الاية كل جمعة واعيدها وأفكر فيها مرارا.

    والله يعينك يا وطن

    ردحذف
  9. مقال جيد يا مثقفة ... ولكن هذا حالنا من الصغير للكبير ...
    وما زلنا متفائلين في اصطلاح البلاد للافضل بعد القرارات الحكيمة لمولانا امد الله بعمره والصلاحيات والتشريعات ...
    تفائلو بالخير تجدوه وبسكم تشاؤم يا ابناء عمان

    ردحذف
  10. مقال جميل ولو انني كنت أنتظر منك قصيدة وشعرا

    أخشى أن تشغلك كتابة المقالات فتبتعدين عن الشعر وتـذبل موهبتك

    تحياتي

    ردحذف
  11. اللهم لا تجعلنا ممن يحسبون أنهم يحسنون صنعا...

    رائع يا عائشة...

    جزاك الله عنا خيرا...

    ردحذف
  12. اعتذر ولكن امست مقالاتك تبعث الغثيان معها لذلك اتجنب اخذها

    بإنتظار الدواء

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن كُورونا، وفقر اللقاح، والشّعب العُمانيّ القنوع: أسئلة غير قنُوعة إطلاقاً

  تحذير: إن كنت لا تحب لغة الأرقام فلا تقرأ هذا المقال   في نُوفمبر 2020، سألتُ مارجي فان جوخ، رئيسَة وحدة المواصلات واللوجيستيات في المنتدى الاقتصادي في دافوس عن استقرائها لشكلِ السباق العَالمي نحوَ اللقاح فأجابتني بأنّ حربَ اللقاحات قد بدأتْ بالفعل وأنّ كل دولة ستكونُ معنية بشعبها فحسب، وأنّ ثلاث عوَامل ستحددُ أسبقية الدول في الحصول على اللقاح، أولاً: ذكاء السياسيين في كلّ دولة وحنكتهم الدبلوماسية ستوضع تحتَ الامتحان الحقيقي لاختبار مِرَاسهم في التفاوض على أكبر عدد من الجرعات مستغلةً علاقاتها الدولية وشبكة معارفها للحصول على أكبر كمية بأسرع وقت ممكن، ثانياً: قدرة فرقهِم الاستراتيجيّة على استقراء مستقبل إنتاج اللقاح وأيٍ من شركات إنتاج اللقاح ستنتجُ أولاً وبفعالية تحصين أكبر وثالثاً: قدرتها المالية التي ستحدد مقدرتها على المخاطرة بشراء لقاحات لم تعتمد بعد بناءً على استقرائها للمستقبل، (إنّها مقامرَة عليهم اتخاذها وإلا فالنتائج وخيمة). معربةً عن قلقها من أنّ المرحلة القادمة ستفتقد المساواة في توزيع اللقاح. (عائشة، إنهم يجوبون العالم -بينمَا نتحدّثُ- بملايين من الكاش لحجز اللق

إذا تريدوا ملابس العيد، روحوا رقطوا (1)

5 قيم تعلمتُها من أميّ: غزالة بنت ناصر الكندية   عائشة السيفي صبيحَة يوم الأحد غسلتُ أمي وكفنتها مع أخواتي. جهزتُ لها لبسةً من حرير فأبلغتني المكفنةُ أن علي أن آتي بلبسة من قطن تخلو من الزركشة. اخترتُ لها أجمل ملابسها وبخرتُها كما كنت أبخر ملابسها لعشرات السنوات كل عيد. أذنتُ في أذنيها، وتأملت أصابعها المنفرجة وأنا أضع بينها الصندل. كانت كقطعة الحرير ببشرتها الصافية وكنت أحدثها: ما أجملك حيةً وما أجملك ميتة. كان مشهداً عظيماً لا أعرف كيف ألهمني الله لأعيشه. أعرفُ أنني كنت شاخصة العينين ولا أذكر أنني بكيت كثيرا.. كانت دموعي تنهمر بصمت إلى أن حملوها في الطارقة وتواروا عن الأنظار. لا أذكر كثيرا مما حدث بعدها فقد سقطتُ طريحة الفراش ليومين. ماتت أمي غزالة بنت ناصر الكندية بعد رحلة ثماني سنواتٍ ويزيد مع مرضٍ لعين اسمهُ ملتي سيستم أتروفي. ومنذ جرى تشخيصها، جُبنا بها أطباء العالم لعلنا نجدُ لها علاجاً فكانت النتيجة واحدة: إنه مرض نهايته الموت، الفارق فقط هو حتى متى سيعيش صاحبه. لسنواتٍ عاشت أمي وعشنا معها معاناةٍ مريرة لا يعلمها إلا الله ونحنُ نتأمل بعجزٍ شديد كيف كانت تنتقل من وهنٍ

اسميْ عائشَة . . وهذهِ حكايتيْ ! (1)

ملاحظَة للقارئ قبلَ الشّروعِ في القرَاءَة: عائشَة حياتهَا. . صفحة بيضَاء جداً ! أشاركُ قليلاً من بيَاضها إيَّاك وأودعُ الباقيْ لهَا ولمن تحبّ .. إذا كنتَ تحملُ مسبقاً أيةَّ "مخلّفات داخليَّة سوداء" فالرجَاء عدم القرَاءة حولَ عائشَة: عائشَة .. قد تكُون أنا أو قد تكُونُ أنتَ .. وليس بالضرُورَة أن تكُونَ من تقرأ لها الآنَ في هذهِ المدوّنة قد يتضمّنُ أدناهُ حكَاياتِي أنا .. وقد يكُون خليطاً من حكاياتِ صديقاتٍ أخريَات .. أجمعها في حياةٍ واحدَة حافلة تستحقُ أن يمتلكَ صاحبها حلماً جميلاً عائشَة التيْ أحكي عنها هنَا.. كائنٌ يحلمُ بحياةٍ جميلة رغمَ يقينها أنّ الحياة لن تكونَ ذلك بالضرُورة .. وهي فتاة ٌ بسيطَة جداً .. يحكيْ بعضهُم .. أنّها لا تزالُ طفلة ً ترفضُ أن تكبر .. ويقولونَ أنّها تحوَّلتْ إلى زوجةٍ عاديةٍ غارقةٍ في تفاصيلِ حياتهَا اليوميَّة بعد زواجها .. يقولُ بعضهمْ أن عائشَة لم تعُد تهتمّ كثيراً بمن حولهَا .. وأنّها تحوَّلتْ -كآلافِ البشر حولنا- إلى كائنٍ غير معنيّ بالضرورة بجدالاتنا الثقافيَّة اليوميَّة المملة .. التيْ قد أثيرها أنا أو أنتَ أو عبيد أو جوخة أو علياء من المثقفي