التخطي إلى المحتوى الرئيسي

روائحُ الجنّة .. على أرصفةِ طرقَاتنا!






http://ayshaalsaifi.blogspot.com/2013/07/blog-post.html?m=1

كنتُ في طرِيقي برفقَة صديقَةٍ إلى إحدى الوزارات .. حينَ مررتُ على شيخٍ كانَ يقفُ على جانبِ الطريق بجسدهِ الناحلِ ويدهِ المتجعدة يستجدِي السيّارات وسائقِيها ليقفُوا له .. حدثَ ذلكَ اليَوم 7/7/2013 في عزّ النهَار القائظ حيثُ كانت الساعة تشيرُ إلى الثانية عشرة والربع وقيظ الصيف وشمسه في أشدهمَا والشّارعُ يخلُو من المارّة سوَى ذلك الشيخ.. ولأنّهُ لا شيء ينهكنيْ كرؤية شيخ يستجدِي من يعطفُ عليهِ ب"توصيلَة سريعَة" فقد تخطيتهُ بينما قلبي يستعرُ .. ولم تمضِ ثوانٍ إلا وقد عقدت عزمِي على العودَة وأنا أفكّر أنني لن أتمكّن من العودَة إذ سيسبقني أحدهُم إلى العطف عليهِ .. ولكنّ أملي خاب .. فحين ترجّلت من سيارتي واقتربتُ من الرّجلِ سألته: وين تريد تروح الوالد؟ فقال لي: أريد أروح ديوان السلطان!


قلت لهُ: هل تعرفُ أين هوَ؟ قال لي: ما أعرف.. سمحتُ لنفسي أن أسأله: مو تريد الوالد من ديوان السلطان؟

والله إنّي رأيتُ الرجلَ يتفصّد حياءً وهو يطرقُ برأسهِ لا يعرفُ ما يجيبنيْ ثمّ يقولُ لي: أنا أريد أروح ديوان السلطان "أطلبه" مساعدَة!

كنتُ مترددة ً فلا أنا أعرفُ أين هوَ ديوان السلطان الذي تطلبُ منهُ المساعدَات ولا أنا أعرفُ أألحقُ موعدي الذي يحينُ خلال عشرِ دقائق

أشفقتُ على الشيخِ الذي كانَ يتصببُ عرقاُ وهوَ يتكِئ على عصاه .. قلتُ له يا والدي ادخل سيارتي المكيفة لحين أجري اتصالاً أسأل معارفي أين يقدمُون طلبات مساعدة ديوان السلطَان .. فرفضَ الرجلُ بلباقةٍ عجيبَة .. يا ابنتي لا تجهدي نفسك بي .. أنا مرتاح هنا .. ألححتُ عليهِ ورجوتهُ فرفض ..

كانَت الشمسُ حارقة ً والجوّ خانقٌ وشديد الرطوبة فبدأتُ أشيرُ على السيّارات ليقف أحدهُم لنا ويوصلَ الرجلَ .. ووالله إني ظننتُ أنّ أوّل سيارةٍ أو ثانيها نشيرُ إليها ستقفُ لنا .. ولكنني مكثتُ بجانبهِ حتّى تعبت .. أشيرُ للسيّارات فيتجاهلني أصحابها .. حتّى سمعتُ الشيخ يقولُ لي: يا بنتي ماحد راضي يساعدنا ولا حد راضي حتى يوقف لنا ..

أقسم بالله أنني ما شعرتُ بالخجل والحياء كما قصمت حيَائي وخجلي تلكَ العبارة .. وفيما نحنُ على حالنا ذلك .. خرجَ شابٌ بدويٌ من وزارة مجاورَة فرآني على حالي تلك مع ذلك الشيخ فسألنَا إن كنّا بحاجة لمساعدة .. قلتُ له: تكون تجمّلت يا أخي وحكيتُ لهُ أمر الشيخ..

قالَ لي الرجل: لديّ اجتماع الآن في الوزارة الفلانيّة ولا أعرفُ أيّ ديوانٍ يقصد .. وإذ بالرجِل يخرجُ بعضَ النقود ويمدّ بها ليد الشيخ فرفض الشيخ بشدّة ورغم إلحاح الرّجل إلا أنّ الشيخ أبى أن يأخذ شيئاً منه .. ظلّ الشيخ يرجونا بعزّة نفس ملفتة بألا "نتكلّف بهِ" وأن نمضي إلى أعمالنا ولكنني لم أستطع أن أتركهُ على حالهِ ذاكَ .. فاتصلتُ بمن أعرفُ فعرفتُ منهم أين تقدّم طلبات المساعدة للديوان.. اقتربَ منّي الشاب وأخبرني أنّ طلبات الديوان تمّ إيقافها حتّى حين.. قلتُ له: وهل يغلقُ باب المساعدَة عن الشعبِ حيناً ويفتح حيناً آخر؟ سألنا الشيخ: إن كان صندوق التقاعد يقدم مساعداتٍ "للعاملين المتقاعدين من البلدية" فقلنا له: ما سمعنا أنهم يقدمون المساعدات.

ذهبَ الشابُ بالرجلِ إلى ديوَان السلطانِ وأخبركم الآن بالتفاصيل على لسان الرجلِ البدويّ الطيب الذي طلبَ من موظفي الديوان أن يقابلَ الشيخُ أحد المسؤولينَ ليحكي لهُم حالهُ وظروفه غيرَ أنّ الحرّاس رفضُوا معللين بأنّ الطلباتِ تمّ إيقافها وأنّهم يستقبلون الاستفسارات وفقط .. حاولَ الرجل إقناعهم بأنّ الرجلَ جاءَ عانياً من الجبلِ الأخضر طلباً لمساعدَة السلطان ورجَاهم أن يقابلَ الشيخُ أحداً فرفضوا ، تدخّلُ رجلٌ آخر وقال لهم: ارحمُوا هذا الشيخَ الكبير وساعدُوه .. فقالوا: أنّ طلباتِ المساعدَة أوقفَت عن "الجمِيع" .. وهنا لم يكن بالمقدُور سوى أن يغادرُ الشابّ وهو لا يعرفُ أين يوصلُ الشيخ الذي نالَ التعبُ والإجهادُ منه ، حمل الشاب الشيخَ إلى مطعمٍ واشترى له غداءً ثمّ أخذه إلى بيتهِ ليستريح .. يسأله الشيخ: من هين يساعدونا يا ولدي؟ يقول له: والله يا والدي لا أعلم .. يعتذرُ الشيخ له تارةً ويشكرهُ تارة أخرى وطوال الطريق لم يكفّ عن شكرنا والدعاء لنا: يقولُ لنا والله أولادي لم يخدمُوني كما فعلتم ..

عادَ الرجل أدراجه إلى قريته في الجبلِ الأخضر بعد أن استأجر له الشابُ سيارَة أجرةٍ لإيصاله و ......

انتهتِ القصّة!

لا حول ولا قوّة إلا بالله ..
ماذا أقولُ؟

هل أتحدّث عن الاحصائيّات العالميّة التي سجّلت ارتفاع دخل الفرد العُمانيّ في السنوَات الأخيرة! وأسأل إن كانت هنالك احصائيّات ترصُد أخلاق المجتمع ومسؤوليّته ورحمَته وإحسانَه؟

رجُل شيخ في عزّ الظّهر يستجدي الناس ولا يقفُ له أحد؟ ثمّ شيخٌ وامرأة يشيران على الناس فيمضُون عنهم!

رجُل شيخ هانَ على أولادهِ وهوَ "يتشحطط" في الشّوارع لا يعرفُ يسَارهُ عن يمينه؟

يا نَاس .. تعبنَا من مشاهِد هؤلاء الشيوبة المصطفين على شوارعنا! تعبنا من تحمِيلهم تعَب هذهِ الدنيَا!

هؤلاء الشيبَان الذينَ أكلَ الدّهر من عمرهم وشرِب ليسَ مكانهم الشوارِع و أبواب دوَاوين الدولة! ليسَت مسؤوليتهم أن يطلبُوا المساعدَة! هؤلاء مكانهم بيوتهم معززينَ فيها ومكرمين .. يخدمهم أولادهم ويكرمونهم! هؤلاء لا يجبُ أن يقلقوا حتّى على أنفسهم لأنّ أبناءهم وشبابهم هم من يجبُ أن يقلقوا عليهم ..

أين مسؤوليتنا الأخلاقية يا نَاس؟ أينَ التزامنا الاجتماعيّ بشيباننا؟

أينَ توقيرنا لهم؟ واحترامنا؟ ورأفتنا بشيبتهم؟

إن كانَت مساعدَات الدولَة تفتح "بالموَاسم" فإنّ كلّ فرد عُماني يجبُ أن يكُون مسؤولاً أخلاقياً واجتماعياً عن هؤلاء ..

لو أنّنا جميعاً الأثرياء منّا ومتوسطي الدخل لا نتصدّق ولا نتبرع ولكننا نخرجُ زكاة مالنا فقط .. لمَا رأينَا هؤلاء الذينَ أشاحت الدنيَا عنهُم يقفُون على جوانب الشوارع يستجدُون الناسَ "توصيلَة" لبابِ مساعدَةٍ مغلق ..

لو أننا جميعاً نشعرُ بالتزامنا بكفالتهم.. لو أننا نعتقد أننا مسؤولون عنهم قبلَ أن تكونَ الحكومَة مسؤولة ً عنهم .. لو أننا نعتقدُ أننا كلّنا راعٍ لما رأيتُ هذا الرجلَ اليوم الذي ما رأيتُ له مثيلاً في عفّةِ نفسهِ ونزاهتها..

أيّها النَاس.. ارحُموا شيوخكُم وعجائزكم ، أعفوهم من صخَب هذهِ الدنيَا و"وساختها" ، لنا نحنُ أن نطلب لآبائنا من يساعدهم ، لنا نحنُ أن نقلقَ عليهم ، لنا نحنُ أن نقلقَ على ما يأكلون ، وما يلبسون وما يطلبُون وليسَ عليهم ذلك ..

أيّها الناس.. شيوخكم وعجائزكم هم روائحُ الجنّة على الأرض .. احتمُوا بزهدهم ، تمسّحوا بنقاءِ أرواحهم ، تبرّكوا بأدعيتهِم ، ارتووا من حكمتهم .. في تجاعيد وجوههم وجلدهم المتغضّن قصص كفاحٍ تدمعُ لها العين ويذوبُ لها القلب ..

تفاصيلُ الرجلِ عندي لمن أرادَ مساعدته .. رغمَ ظنّي أن عفّة نفسه ستمنعهُ من قبُول أيّ مساعدَة سوَى من ديوان السلطان المُرادِ له وللشّعب كله ..

إن كانَ من أذنٍ تسمعُ لهم في الديوان ومن بابٍ لم يوصد بعدُ عنهم فافتحُوه لهم واستمعوا لألمهم .. هم لا يعرفُون قلماً ليحكوا لكم مآسيهم "مكتوبة في أوراق الطلبات" .. ولكنّهم صادقُون ونزيهُون .. ولا يوازي عفّتهم وكبرياءهم إلا حاجَتهم لعطفِ السلطان وكرمهِ ..

اتقُوا الله في شيباتهم ... اتقوا الله!

تعليقات

  1. ما قصرتي أختي في ميزان حسناتك

    ردحذف
  2. ربي يجزيكم كل خير انتي والأخ اللي ساعده في ميزان حسناتكم يارب...
    ما نقول غير حسبي الله ونعم الوكيل...

    ردحذف
  3. الله يبارك لأصحاب الأيادي البيضاء

    ردحذف
  4. دومًا يعصرني هذا الأمر، ولم أجد له من مخرج، شكرًا لأنكِ كتبتِ لتحكي عن بعضٍ مما يجول في قلبي..!

    ردحذف
  5. يا رحمن السموات و الأراضين..

    ردحذف
  6. أرحمو من في الأرض يرحمكم من في السماء

    ردحذف
  7. وأنا أذهب لعملي صادف كثيرا جدا أن أرى رجالا ونساء كبارا في السن يسيرون في حر الشمس... توقفت مرة لامرأة ورفضت، ومرة لرجل وفضل السير، وآخر قبل التوصيل... مشاوير تستغرق دقائق فقط - في حالتي - ولكنها أثرها الطيب في النفس يبقى طويلا، وهذا الرجل أعانه الله

    ردحذف
  8. حسبي الله ونعم الوكيل

    ردحذف
  9. بورك قلمك
    موضوع كان يؤرقني
    شكرا على الطرح

    ردحذف
  10. شكرا على هذه المدونة الرائعة

    ردحذف
  11. إبداع ابدعتي؛؛؛ أختي عائشه

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن كُورونا، وفقر اللقاح، والشّعب العُمانيّ القنوع: أسئلة غير قنُوعة إطلاقاً

  تحذير: إن كنت لا تحب لغة الأرقام فلا تقرأ هذا المقال   في نُوفمبر 2020، سألتُ مارجي فان جوخ، رئيسَة وحدة المواصلات واللوجيستيات في المنتدى الاقتصادي في دافوس عن استقرائها لشكلِ السباق العَالمي نحوَ اللقاح فأجابتني بأنّ حربَ اللقاحات قد بدأتْ بالفعل وأنّ كل دولة ستكونُ معنية بشعبها فحسب، وأنّ ثلاث عوَامل ستحددُ أسبقية الدول في الحصول على اللقاح، أولاً: ذكاء السياسيين في كلّ دولة وحنكتهم الدبلوماسية ستوضع تحتَ الامتحان الحقيقي لاختبار مِرَاسهم في التفاوض على أكبر عدد من الجرعات مستغلةً علاقاتها الدولية وشبكة معارفها للحصول على أكبر كمية بأسرع وقت ممكن، ثانياً: قدرة فرقهِم الاستراتيجيّة على استقراء مستقبل إنتاج اللقاح وأيٍ من شركات إنتاج اللقاح ستنتجُ أولاً وبفعالية تحصين أكبر وثالثاً: قدرتها المالية التي ستحدد مقدرتها على المخاطرة بشراء لقاحات لم تعتمد بعد بناءً على استقرائها للمستقبل، (إنّها مقامرَة عليهم اتخاذها وإلا فالنتائج وخيمة). معربةً عن قلقها من أنّ المرحلة القادمة ستفتقد المساواة في توزيع اللقاح. (عائشة، إنهم يجوبون العالم -بينمَا نتحدّثُ- بملايين من الكاش لحجز اللق

إذا تريدوا ملابس العيد، روحوا رقطوا (1)

5 قيم تعلمتُها من أميّ: غزالة بنت ناصر الكندية   عائشة السيفي صبيحَة يوم الأحد غسلتُ أمي وكفنتها مع أخواتي. جهزتُ لها لبسةً من حرير فأبلغتني المكفنةُ أن علي أن آتي بلبسة من قطن تخلو من الزركشة. اخترتُ لها أجمل ملابسها وبخرتُها كما كنت أبخر ملابسها لعشرات السنوات كل عيد. أذنتُ في أذنيها، وتأملت أصابعها المنفرجة وأنا أضع بينها الصندل. كانت كقطعة الحرير ببشرتها الصافية وكنت أحدثها: ما أجملك حيةً وما أجملك ميتة. كان مشهداً عظيماً لا أعرف كيف ألهمني الله لأعيشه. أعرفُ أنني كنت شاخصة العينين ولا أذكر أنني بكيت كثيرا.. كانت دموعي تنهمر بصمت إلى أن حملوها في الطارقة وتواروا عن الأنظار. لا أذكر كثيرا مما حدث بعدها فقد سقطتُ طريحة الفراش ليومين. ماتت أمي غزالة بنت ناصر الكندية بعد رحلة ثماني سنواتٍ ويزيد مع مرضٍ لعين اسمهُ ملتي سيستم أتروفي. ومنذ جرى تشخيصها، جُبنا بها أطباء العالم لعلنا نجدُ لها علاجاً فكانت النتيجة واحدة: إنه مرض نهايته الموت، الفارق فقط هو حتى متى سيعيش صاحبه. لسنواتٍ عاشت أمي وعشنا معها معاناةٍ مريرة لا يعلمها إلا الله ونحنُ نتأمل بعجزٍ شديد كيف كانت تنتقل من وهنٍ

اسميْ عائشَة . . وهذهِ حكايتيْ ! (1)

ملاحظَة للقارئ قبلَ الشّروعِ في القرَاءَة: عائشَة حياتهَا. . صفحة بيضَاء جداً ! أشاركُ قليلاً من بيَاضها إيَّاك وأودعُ الباقيْ لهَا ولمن تحبّ .. إذا كنتَ تحملُ مسبقاً أيةَّ "مخلّفات داخليَّة سوداء" فالرجَاء عدم القرَاءة حولَ عائشَة: عائشَة .. قد تكُون أنا أو قد تكُونُ أنتَ .. وليس بالضرُورَة أن تكُونَ من تقرأ لها الآنَ في هذهِ المدوّنة قد يتضمّنُ أدناهُ حكَاياتِي أنا .. وقد يكُون خليطاً من حكاياتِ صديقاتٍ أخريَات .. أجمعها في حياةٍ واحدَة حافلة تستحقُ أن يمتلكَ صاحبها حلماً جميلاً عائشَة التيْ أحكي عنها هنَا.. كائنٌ يحلمُ بحياةٍ جميلة رغمَ يقينها أنّ الحياة لن تكونَ ذلك بالضرُورة .. وهي فتاة ٌ بسيطَة جداً .. يحكيْ بعضهُم .. أنّها لا تزالُ طفلة ً ترفضُ أن تكبر .. ويقولونَ أنّها تحوَّلتْ إلى زوجةٍ عاديةٍ غارقةٍ في تفاصيلِ حياتهَا اليوميَّة بعد زواجها .. يقولُ بعضهمْ أن عائشَة لم تعُد تهتمّ كثيراً بمن حولهَا .. وأنّها تحوَّلتْ -كآلافِ البشر حولنا- إلى كائنٍ غير معنيّ بالضرورة بجدالاتنا الثقافيَّة اليوميَّة المملة .. التيْ قد أثيرها أنا أو أنتَ أو عبيد أو جوخة أو علياء من المثقفي