التخطي إلى المحتوى الرئيسي

المُبصِر الوحيد في عَالم العُميَان .. ليسَ بالضرُورَة ملكاً ..

عائشَة السيفيّ

 في واحدَة من روائعِ الأدَب العالميّ الذي ينتصرُ لفكرَة العمَى وينقلبُ في أفكارهِ على النمَط المتعَارف عليهِ بأنّ العمَى إعاقَة يقدّم الروائيّ الانجليزيّ هيربرت جُورج ويلز قصَته " بلاد العُميان" والتي تحكِي رحلَة المَصير لمتسلّق إكوَادوري يُدعَى نُونيز .. سقَط في إحدى تجَارب تسلّقه لجبلٍ إلى قعرِ وادٍ حدثَ أن فصَلهُ الزلزالُ عمّا حوله لتتحوّل المنطقة المحيطة بهِ إلى سلسلة جبال شاهقة تعزلهُ تماماً عن الاتصالِ بمحيطهِ الخارجيّ ويصادِف نونيز قرية ً لبشرٍ يعيشُون في الوادي حجبتهُم ظروفُ الجغرافيَا عن الاتّصال بأي شكلٍ من الأشكال مع العالمِ الخارجيّ

. غيرَ أنّ أهم ما كانَ يميّز هذهِ القريَة أنّ جميع سُكانهَا "عُميان" وبالرّغم أنّ أجدادهم قكانوا مبصرينَ إلا أنّ مرضاً جينياً أصاب الجَميع ليحوّلهم إلى عُميان وأنّ آخر مبصرٍ الأحياء ماتَ قبل 15 جيلاً تاركاً أجيالاً جديدة لم تختبِر يوماً فكرَة "الإبصَار" .. بدَت فكرَة القريَة العمياء بالكَامل مثيرةً جداً لنونيز لأنّه اعتقدَ أنّ كونهُ المبصِرَ الوحيد في هذهِ القريَة سيجعلهُ ملكاً ولذا فقد حاولَ جهدَ ما يستطيعُ أن يقنعَ القريَة بفكرَة "الإبصَار" التي بدَت "غريبَة" .. ومثيرَة للتهكّم ربّما .. الإبصار؟! ما الذي يعنيهِ الابصَار .. ما معنَى كلمَة "انظر" ؟

نعم لقد بدَت حَاسة الإبصَار التي تبَاهى بهَا نونيز أمام القريَة فكرَة "سخيفة" .. ففاقدُ الشيء لا يعطيه .. ومن ولدَ أعمَى وسطَ العُميان لن يعرفَ يوماً ما يعني أن يكونَ مبصراً وهوَ لم يجرّبه أو جرّبه أحدٌ غيره ..

كانَ أهالي القريَة سعدَاء ومتعايشين مع فكرةِ "عماهم" كمَا أنّ فقدهم لحاسّة النظر جعلَ من حوَاسهِم الأخرَى فائقة الحدّة وشديدَة التوثّب .. فما حرمهمُ الله من نعمَة إلا عوّضهم في الأخرى. ويصلُ نونيز إلى مرحلة من اليَأس حينَ تصبحُ الحَاسة الوحِيدة التيْ يتمتعُ بها "إعاقةً" .. ويتحوّل إلى كائنٍ منبوذٍ للقريَة ظنّ أنهُ سيصبحُ ملكاً عليها بحاسَته الزائدة عنهُم لكنّ الحال ينتهي بهِ أجيراً وخادماً لدَى أحد سكّان القريَة. وتبلغُ القصّة ذروتهَا حينَ يقعُ نونيز في غرَام ابنةِ سيّده فيطلب يدَها إلا أنّ طلبهُ يبَادر بالرّفض لأنّه "مبصِر" ! ويُخيّر بين أن "يَقلع عينيهِ" ليصبحَ أعمَى مثلهم وبينَ أن يخسَر الارتباطَ بحبيبتهِ ..

 الخُلاصَة أنّ "الظرُوف" هيَ التي تُعرِّفُ من/ومَا هيَ الإعاقَة .. وأنّ المجتمع هوَ المحدّد دائماً لفكرَة "الاختلاف" و المسؤولُ الأوّل عن جعلِ "المختلفين" سواءً العُميان أو غيرهم جزءاً مندمجاً مع نسيجِ المجتمع أو معاملتهِ كفئة ً منفصلة أو شاذّة. وأنّ الانسانَ قادرٌ بما وهبهُ الله من عقل على تنميةِ حوَاسهِ الأخرى لتحتدّ في محاولَة على التغلّب على واقعِ فقدانهِ لحاسّةٍ ما ولن يَحصُل ذلك ما لم يتعَايش بسلامٍ وحبٍ مع فكرَة "عمَاه" ..

وأهمّ من ذلكَ كلّه أنّ التميّز عن الآخرين بنعمةٍ "لا يدركونها" و"لم يجرّبوها" لا تصبحُ بالضرُورة نعمةً بل قد تعُودُ نكالاً على صاحبهَا وتصبحُ "إعاقةً" بدلَ أن تكُونَ "ميزةً" .. نعم.. تذكّروا دائماً حكمَة هيربت ويلز بأنّ الانسَانَ المُبصِرَ الوحِيد وسطَ شعبٍ من العُميان ليسَ بالضرورةٍ ملكاً!

تعليقات

  1. قصة جميلة قد قراتهالكن رأيت ان الكاتب قد دأب على جعل نونيز غبيا لا يفهم فهو كان بامكانه استخدام عدة طرق لكي ينتفع بابصاره بين العميان. خلاصة الكلام قصة رائعة ولكنها لم تطرح الاستثناءات

    ردحذف
  2. جميل تقليب الأفكار .. ومغري للعقول إقناعها ..

    أشكر القراءة و الإفادة 🌷

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

إذا تريدوا ملابس العيد، روحوا رقطوا (1)

5 قيم تعلمتُها من أميّ: غزالة بنت ناصر الكندية   عائشة السيفي صبيحَة يوم الأحد غسلتُ أمي وكفنتها مع أخواتي. جهزتُ لها لبسةً من حرير فأبلغتني المكفنةُ أن علي أن آتي بلبسة من قطن تخلو من الزركشة. اخترتُ لها أجمل ملابسها وبخرتُها كما كنت أبخر ملابسها لعشرات السنوات كل عيد. أذنتُ في أذنيها، وتأملت أصابعها المنفرجة وأنا أضع بينها الصندل. كانت كقطعة الحرير ببشرتها الصافية وكنت أحدثها: ما أجملك حيةً وما أجملك ميتة. كان مشهداً عظيماً لا أعرف كيف ألهمني الله لأعيشه. أعرفُ أنني كنت شاخصة العينين ولا أذكر أنني بكيت كثيرا.. كانت دموعي تنهمر بصمت إلى أن حملوها في الطارقة وتواروا عن الأنظار. لا أذكر كثيرا مما حدث بعدها فقد سقطتُ طريحة الفراش ليومين. ماتت أمي غزالة بنت ناصر الكندية بعد رحلة ثماني سنواتٍ ويزيد مع مرضٍ لعين اسمهُ ملتي سيستم أتروفي. ومنذ جرى تشخيصها، جُبنا بها أطباء العالم لعلنا نجدُ لها علاجاً فكانت النتيجة واحدة: إنه مرض نهايته الموت، الفارق فقط هو حتى متى سيعيش صاحبه. لسنواتٍ عاشت أمي وعشنا معها معاناةٍ مريرة لا يعلمها إلا الله ونحنُ نتأمل بعجزٍ شديد كيف كانت تنتقل من وهنٍ

عن كُورونا، وفقر اللقاح، والشّعب العُمانيّ القنوع: أسئلة غير قنُوعة إطلاقاً

  تحذير: إن كنت لا تحب لغة الأرقام فلا تقرأ هذا المقال   في نُوفمبر 2020، سألتُ مارجي فان جوخ، رئيسَة وحدة المواصلات واللوجيستيات في المنتدى الاقتصادي في دافوس عن استقرائها لشكلِ السباق العَالمي نحوَ اللقاح فأجابتني بأنّ حربَ اللقاحات قد بدأتْ بالفعل وأنّ كل دولة ستكونُ معنية بشعبها فحسب، وأنّ ثلاث عوَامل ستحددُ أسبقية الدول في الحصول على اللقاح، أولاً: ذكاء السياسيين في كلّ دولة وحنكتهم الدبلوماسية ستوضع تحتَ الامتحان الحقيقي لاختبار مِرَاسهم في التفاوض على أكبر عدد من الجرعات مستغلةً علاقاتها الدولية وشبكة معارفها للحصول على أكبر كمية بأسرع وقت ممكن، ثانياً: قدرة فرقهِم الاستراتيجيّة على استقراء مستقبل إنتاج اللقاح وأيٍ من شركات إنتاج اللقاح ستنتجُ أولاً وبفعالية تحصين أكبر وثالثاً: قدرتها المالية التي ستحدد مقدرتها على المخاطرة بشراء لقاحات لم تعتمد بعد بناءً على استقرائها للمستقبل، (إنّها مقامرَة عليهم اتخاذها وإلا فالنتائج وخيمة). معربةً عن قلقها من أنّ المرحلة القادمة ستفتقد المساواة في توزيع اللقاح. (عائشة، إنهم يجوبون العالم -بينمَا نتحدّثُ- بملايين من الكاش لحجز اللق

اسميْ عائشَة . . وهذهِ حكايتيْ ! (1)

ملاحظَة للقارئ قبلَ الشّروعِ في القرَاءَة: عائشَة حياتهَا. . صفحة بيضَاء جداً ! أشاركُ قليلاً من بيَاضها إيَّاك وأودعُ الباقيْ لهَا ولمن تحبّ .. إذا كنتَ تحملُ مسبقاً أيةَّ "مخلّفات داخليَّة سوداء" فالرجَاء عدم القرَاءة حولَ عائشَة: عائشَة .. قد تكُون أنا أو قد تكُونُ أنتَ .. وليس بالضرُورَة أن تكُونَ من تقرأ لها الآنَ في هذهِ المدوّنة قد يتضمّنُ أدناهُ حكَاياتِي أنا .. وقد يكُون خليطاً من حكاياتِ صديقاتٍ أخريَات .. أجمعها في حياةٍ واحدَة حافلة تستحقُ أن يمتلكَ صاحبها حلماً جميلاً عائشَة التيْ أحكي عنها هنَا.. كائنٌ يحلمُ بحياةٍ جميلة رغمَ يقينها أنّ الحياة لن تكونَ ذلك بالضرُورة .. وهي فتاة ٌ بسيطَة جداً .. يحكيْ بعضهُم .. أنّها لا تزالُ طفلة ً ترفضُ أن تكبر .. ويقولونَ أنّها تحوَّلتْ إلى زوجةٍ عاديةٍ غارقةٍ في تفاصيلِ حياتهَا اليوميَّة بعد زواجها .. يقولُ بعضهمْ أن عائشَة لم تعُد تهتمّ كثيراً بمن حولهَا .. وأنّها تحوَّلتْ -كآلافِ البشر حولنا- إلى كائنٍ غير معنيّ بالضرورة بجدالاتنا الثقافيَّة اليوميَّة المملة .. التيْ قد أثيرها أنا أو أنتَ أو عبيد أو جوخة أو علياء من المثقفي