التخطي إلى المحتوى الرئيسي

أزمَة القَلم والمبرَاة


أزمَة القَلم والمبرَاة
http://ayshaalsaifi.blogspot.com/2018/02/blog-post_14.html
 



عائشَة السيفيّ
 

ألقيتُ نظرَةً على الفيسبُوك صبيحَة اليَوم ووجدتُ أحدهُم قد وضعَ صورَة كاريكاتير نشرَ اليوم في صحيفَة عُمانيّة.. نظرتُ إلى الكاريكَاتير وتمتمتُ في نفسي: من الغريب أن تنشرَ هذهِ الصحيفَة كاريكاتيراً بهذا العُمقِ .. عندَ هذا الحدّ انتهَى الأمر.

بعدهَا بسَاعات وجدتُ الكاريكاتير وقدِ انتشرَ انتشار النارِ في الهَشيم بينَ لاعنٍ وهامزٍ ولامِز. دُهشتُ من الأمر وأنا أفكّر في وجهِ الإساءَة التي يحتمِلُ الكاريكاتير على إثرَها سيلَ الشتَائم هذهِ وقد صُعقتُ للتفسيرات "الجنسيّة" التيْ حُمِّلَ بهَا الكاريكاتير.

أعرفُ أنني أدخلُ "عشَ الدبابير" وأنا أتناول هذا الجَانب لأنني أقفُ في وجهِ "تفكير" غالبيّة الجماهير التي رأت في الكاريكَاتير خدشاً صريحاً لحيائها وتجاوزاً لأدبيّات النشر.

دعُوني أعرضُ لكم ما تبادر إلى ذهني وأنا أنظرُ إلى الكاريكاتير صبيحَة اليَوم .رأيتُ قلماً أمامهُ خياران: الخيَار الأوّل هو المبرَاة ممثلةً في سلطة الرقَابة الخانقَة التي تزدادُ حدّتها يوماً بعد يوم على أصحَاب الأقلام .. أو خيَار أن يغرقَ في حالِ اختَار ألا يستجيبَ لأهواءِ الرقَابة.

المغرّدونَ والصحفيُون والكتّاب الذينَ ذاقوا الأمرّين من ملاحقَة القضاءَ والأجهزَة الأمنيّة وذاقُوا الحَبس والحرمَان والتهديد يعرفُون تماماً ما عناهُ هذا الكاريكاتير في توقيتٍ كتوقيت ما يسمّى ب"عيدِ الحبّ".

يعرفُونَ أيضاً أنّ المبراة ستحاولُ دائماً تدجِين الأقلام المشبوهَة لمصالحها وأهوائها وأنّ من يقاوِم يدفعُ الثّمن. وهذا واقعٌ عالميّ وشهدنَا عليهِ محلياً وعربياً في الآونَة الأخيرة التي سقطتْ فيها أقلام في وجهِ التحزّبات التي تقودهَا الحكومات وفرضِ أهوائها السياسيّة على أصحابِ القلم.

هكذَا فهمتُ المقال وهكذا فهمهُ آخرون ولستُ هنَا في معرَض استعرَاض العضلات أو التفذلك. كانَ مدهشاً لي ولبعضِ من ناقشتُهم في الأمر أنْ تتحوّل هذهِ الرسالة التي فهمنَا بهَا الكاريكاتير إلى مفهُوم جنسيّ كما رآهُ كثيرون.

تُحيلني هذهِ الهجمَة المجتمعيّة الحادّة إلى سياقَات أخرى كنتُ شخصياً أحدَ ضحاياها. عندمَا يكتبُ كاتبٌ مقطعاُ ما أو يُجيب إجابَة ما ضمن حوَار طويل ويستقطع أحدهُم مقطعاً منهُ خارجَ السيَاق ويتداوَل بينَ النّاس على اعتبارهِ "ذا مغزَى جنسيّ" وعلى الكَاتب حينهَا أو الرسّام أن يتحمّل موجَة السّحل الجماعيّة التي تصيبهُ. الجنس الذي لا يزَال تابُوهاً مجتمعياً "على الورق فقط" رغم ما نراهُ في الواقع من كلّ المحرّضات الجنسيّة والعَوالم الخفيّة التي تحدثُ في الظلام.

ولأنّ المجتمعَ ببساطَة يُريدُ أن يسمَع (ما يُريدُ هوَ أن يسمعهُ) ولا مكَان بينهُ لأصحَاب النيّات الطيبة والتفسيراتِ العاديّة.

تُحيلني هذهِ الأزمَة أيضاً إلى كتَاب خوَارق اللاشعُور للدكتُور علي الوردي وحديثهِ عمّا يسمّى بـ"الإطارِ الفكريّ" الذي ينطلقُ كلّ واحدٍ منهُ في نظرتهِ وفهمهِ للأمور. الإطَار الفكريّ لا شعُوريّ وهوَ نتاجُ علاقَة الانسَان بمحيطهِ وأفكارِ بيئتهِ وما يغذّيه إيّاه"عقلهُ اللاواعي" الذي يحددُ لهُ طريقَة فهمهِ للأمور.

بمعنَى أننا جميعاً قد نرَى مثلاً "مبراة" ولكنّ كلّ واحد منّا للوهلةِ الأولى دونَ أن يستمع لما يقولهُ الآخر سيفسّر المبراة على طريقتهِ.

على قنَاة "أخضر" في اليُوتيوب ، عرضَ مقطع فيديو كرتونيّ لكتاب خوَارق اللاشعُور مثالاً هوَ ماذا لو أحضرنَا فيلاً في غرفة مظلمَة وأحضرنَا أربع نسَاء وطلبنَا من كلّ واحدَة أن تضعَ يدها على الفيل.

الإجَابَة كانت كالتّالي: التي ستضعُ يدهَا على ذيلهِ ستعتقدُ أنّه حبل، أخرَى ستعتقدُ أنّه جدار لأنها وضعت يدَها على جانبِ بطنهِ وأخرى ستعتقدُ أنّه جذع شجرَة لأنها أمسكت رجله. في حقيقةِ الأمر لا يمكنُ لأيٍ منّا أن يقولّ أنّ أياً منهنّ كانت على صوَاب أو على خطأ لأنّ كلّ واحدَةٍ فسّرت الفيل وفقَ منظورها هي.

ما يريدُ أن يوصلهُ الدكتور علي الورديّ في كتابهِ أننا ننطلقُ جميعاً من قاعدَة مختلفة في تفكيرنا وهي قاعدَة لا شعوريّة وللمجتمع والبيئة التي تحيطُ بنا أثرٌ أساسيّ في تحديد تفسيرنا وفهمنَا للأمور.

ولأننا مجتمَع يعاني فصاماً حقيقياً بين لغَة الصحَافة "المثاليّة" ولغَة الشّارع "غير المثاليّ" ومحكُومون بثقافَة العيب وعدَم مناقشَة المواضيع الحساسَة والخاصّة علنياً فإنّ النتيجَة غضبٌ شعبيٌ على كاريكاتير يفسّرهُ المجتمع بالطريقَة التي يُريدُ هوَ أن يفسّرها.

المجتمَع الذي يعتقدُ أن (عيد الحبّ) كما يسمّى هوَ "حالَة جنسيّة" وفي حقيقَة الأمر فإنّ مفهُوم هذا اليَوم وفقَ الأعراف الأجنبيّة احتكرَ في مفهُومٍ جنسيّ ضيّق ولكنّ ما لا يعرفهُ كثيرون أنّه فرصة لإظهار المحبّة للأشخاص المميزين في حياتهم.

رأيتُ مثلاً قبل قليل صُورة لصديقَة من المغربِ العربيّ تعملُ معلّمة في مدرسَة وقد وضعَت صورةً لطلابها الذين أحضرُوا لها كعكة مليئة بالقلوب واحتفلُوا معها بهذَا اليَوم. وبعثت صديقتي الهنديّة باقَة وردٍ إلى صديقتها الأخرى لتهنئها بهذا اليوم ووضعتْ صديقَتي البلجيكيّة على حسابهَا صُورَة لأمّها معلّقة: لم أجد في عيدِ الحبّ صدَاقة ً غامرةً بالمحبّة كما وجدتُها مع أمّي.
لا أريدُ في هذا المقَال أن أبررَ هذا اليَوم وما يحدثُ فيهِ فإنّ الخلقَ لخالقهم ولكنّ التفسيرات المدهشَة التي سمعتُها اليَوم أثارتْ في داخلي تساؤُلاتٍ عن أزمَة حقيقيّة في إسقاط مفاهِيمنا المنطلقَة من إطار واحدٍ وثقافة "الرأي الواحد" على مَا نرَاهُ.

صفّوا النيّة يا جمَاعة. واتركُوا القلم والمبرَاة وصاحبَ الكاريكاتير الذي نحمدُ الله أنّه لم يكن فتاةً في حَالهم. رزقنَا الله وإيّاكم الحبّ وسعَة القلُوب وتقبّل الاختلاف.

تعليقات

  1. جميل التحليق حول الحمى وجميل اسلوبك في سرد مايمكن أن يقال عن موضوعا ما حوله اختلاف ...نثق بأن المفاهيم تختلف باختلاف الأشخاص وتكوين الثقافي ومدى استعدادهم لقبول الاختلاف ..
    نفهم الرمزية ونفهم القصد الإيحائي ونفهم نصف التفاحة ومايرادفها من قصد وتعبير ..

    ردحذف
  2. يعني عبارة ان تفكيرك أنظف من المجتمع ....مبارك
    ورأيك يخصك وحدك ....راي ان الرسام حب يشتهر على حساب مقولة خالف تعرف ..وانتي عرفتي على نفس الأوتار

    ردحذف
  3. ملامح المبراة بأحمر الشفاة والحذاء الأحمر والملامح الأنثوية تدل على سلطة الرقابة! والقلم الخشبي أمام الخيار الثاني يغرق! أهذا المعنى العميق! أم هذه براءة في التفكير؟

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هلْ أنفقَ "قابُوس بن سعِيد" 64 مليُون دولار على منظمَاتٍ بريطانيّة؟

"قابُوس بن سعِيد يكرّم هيئة حقوق الانسان البريطاني 21 مليون دولار ومساعدَة للمنظمة المالية البريطانية 43 مليون دولار" هكذا وصلتنيْ رسالة تناقلهَا الناسُ مؤخراً عبر أجهزة البلاك بيري وبرنامج الوتسأب ومواقع التواصل الاجتماعي .. تناقلَ الناسُ الخبر "المُصَاغ بركاكة لغويّة" بحالة من الغليان حول تبرع السلطان قابوس لمنظمات بريطانية بـ64 مليون دولار. وصلتنيْ الرسالة من أشخاصٍ مختلفين ولم يستطع أيٌ منهم أن يجيبني على سؤالي حولَ مصدر الخبر .. كان جميعهم يتناقل الخبر دون أن يكلّف نفسه بالعودة إلى المصدر .. بحثتُ عبر الانترنت عن أيّ موقع أو تقرير يتحدث عن الهبةِ السلطانيّة "السخيّة" ولم أستطع الوصول إلى أيّ موقع إخباري أو رسميّ يتحدث عن التبرع. وحينَ حاولتُ البحث عن المؤسستين البريطانيتين المذكورتين أعلاهُ لم أجد لهما ذكراً على أخبار الانترنت إطلاقاً سوى مواضيع طرحها أعضاء منتديات وضعوا الخبر هذا في منتدياتهم وأشاروا إلى المؤسستين بهذا الاسم. حينهَا قرّرتُ أن أصلَ بنفسي إلى مصادر تؤكدُ لي –على الأقل- صحّة المعلومة من عدمها. حاولتُ البحثَ باللغتين عن مواقع ل...

إذا تريدوا ملابس العيد، روحوا رقطوا (1)

5 قيم تعلمتُها من أميّ: غزالة بنت ناصر الكندية   عائشة السيفي صبيحَة يوم الأحد غسلتُ أمي وكفنتها مع أخواتي. جهزتُ لها لبسةً من حرير فأبلغتني المكفنةُ أن علي أن آتي بلبسة من قطن تخلو من الزركشة. اخترتُ لها أجمل ملابسها وبخرتُها كما كنت أبخر ملابسها لعشرات السنوات كل عيد. أذنتُ في أذنيها، وتأملت أصابعها المنفرجة وأنا أضع بينها الصندل. كانت كقطعة الحرير ببشرتها الصافية وكنت أحدثها: ما أجملك حيةً وما أجملك ميتة. كان مشهداً عظيماً لا أعرف كيف ألهمني الله لأعيشه. أعرفُ أنني كنت شاخصة العينين ولا أذكر أنني بكيت كثيرا.. كانت دموعي تنهمر بصمت إلى أن حملوها في الطارقة وتواروا عن الأنظار. لا أذكر كثيرا مما حدث بعدها فقد سقطتُ طريحة الفراش ليومين. ماتت أمي غزالة بنت ناصر الكندية بعد رحلة ثماني سنواتٍ ويزيد مع مرضٍ لعين اسمهُ ملتي سيستم أتروفي. ومنذ جرى تشخيصها، جُبنا بها أطباء العالم لعلنا نجدُ لها علاجاً فكانت النتيجة واحدة: إنه مرض نهايته الموت، الفارق فقط هو حتى متى سيعيش صاحبه. لسنواتٍ عاشت أمي وعشنا معها معاناةٍ مريرة لا يعلمها إلا الله ونحنُ نتأمل بعجزٍ شديد كيف كانت تنتقل من و...

السيّد نائب رَئيسِ مجلسِ الوزراء ... الخُبز أم الكَعك؟

السيّد نائبُ رئيس الوزراء ... الخُبز أم الكعك؟ نسخَة من الرّسالة إلى وزيرَي التجارَة والصنّاعة والمَكتبِ السّلطاني. صاحب السموّ السيّد فهد بن محمُود نائبَ رئيسِ الوزراء.. تحيّة طيبة وبعد: دعني قبلَ أن أبدَأ رسالتيْ أن أحكي لكَ قصّة ماري انطوانيت .. آخر ملوك فرنسَا .. ففيمَا كانت الثورَة الفرنسية تشتعلُ والجماهيرُ الفرنسيّة الغاضبَة تحيط بقصر فرسَاي لتخترقه كانَت الجماهيرُ تصرخُ: نريدُ الخبز ، نريدُ الخبز! شاهدَت ماري انطوَانيت الجماهير يصرخُون من شرفَة قصرهَا وسألتْ كبيرَ خدمها: لماذا يريدُ الناسُ خبزاً؟ فأجابها: لأنهم لا يستطيعُون شراءه أيها الملكة! فردّت عليه بقمّة اللامبالاة والجهل: "إذا لم يجدوا خبزاً لماذا لا يشترونَ الكعك"! .. لقد كانتْ ماري انطوانيت تجهَلُ أنّ الكَعك أغلى من الخُبز فإن كانُوا عدمُوا الخبز فقد عدمُوا الكعكَ قبلهُ.. ظلّت هذه القصّة لأكثر من ثلاث قرونٍ من الزّمان حتّى اليوم مدارَ ضرب الأمثال في انفصَال المسؤُول عن واقعِ النّاس ومعيشتهم.. لأنّها كانت تتكررُ في أزمنة وأمكنة مختلفة. أتساءَل فقط سيّدي الكريم إن كنتَ تعرفُ كيفَ يعيشُ المواط...