عائشَة السيفيّ
لا تغيبُ المقاهيْ الثقافيّة عن الذّكر كلّما استعرضَ أديبٌ أو باحثٌ حركَة الأدب العربيّ القديمَة والمعاصرَة .. وتحضرُ مصر والعراق ومقَاهي الشّام في المقدّمة .. عبرَ مقاهيهَا الشهيرَة التيْ احتضنتْ كتاباً كباراً أهدوا الأدبَ العربيّ روائعَ الكتب ..
حينَ تذكرُ المقاهي في مصرَ يذكرُ في المقدّمة مقهَى الريش في القاهرَة الذيْ لمْ يكنْ واجهة ً ثقافيّة يتجمّع فيها المثقفُون المصريُون والعرب فحسب بلْ كان وجهة ً فنيّة وتشكيليّة بدأتْ فيمَا قبل ظهُور أم كلثُوم وعاصرتْ أم كلثُوم بحفلاتها التيْ أقامتهَا في ذلك المقهَى ..
مقاهٍ أخرى كثيرَة دخلت التاريخ لعلّ أبرزها مقهَى نجيب محفُوظ الذي اعتادَ روّاده أن يرَوا الرّجل العجوز بنظّارتهِ الكثيفَة يطلبُ شايهُ المفضّل من النادل .. يجلسُ يومياً في نفسِ الكرسيّ ، يطالعُ الجريدَة ثمّ يخرجُ قلمهُ ويكتُبُ .. كانَ نجيب محفُوظ واحداً من أبرز أدبَاء العربِ ممنْ روّجوا لثقافَة المقاهي الثقافيّة وارتبَاط حيَاة الكاتب بالمقهَى ..
رغمَ مرورِ ثلاثَة أعوام على رحِيل نجيب محفُوظ إلا أنّ مقهاهُ البسيط جداً في مظهرهِ والذي اعتَاد ارتيادهُ كلّ يوم يجتذبُ الكثيرينَ ممن يذهبُون خصيصاً للمقهَى ليتتبعُوا رائحَة الرجلِ الذي أغنَى المكتبَة العالميّة برواياتهِ الخالدَة ..
فيْ عُمان لا تزَال ثقافَة المقهَى مغمُورة جداً بيننا .. يفعلهَا المثقفُون الشباب بشكلٍ شخصيّ فيما بينهُم ، يتجمّعُون في نهاية الأسبُوع في مقهى ما لتبادلِ الحديث الثقافيّ وغير الثقافيّ .. إلا أنّ المقهَى كواجهَة ثقافيّة لإقامة الفعاليّات والأمسيات مغيّب تماماً في ثقافتنا كعمانيين ..
في البحرين وقبلَ أسابيع اصطحبنيْ بعضُ الأصدقاءِ إلى عددٍ من المقاهي والكافيهات الثقافيّة وقد دهشتُ فعلاً من تنظيمها وأناقتها ..
إحدى تلكَ الكافيهَات كانَ لامرَأة مصريّة مهتمّة بالثقافَة وكان عبارة ً عن جاليري مقسم لقسمين .. جزءٌ منهُ لروّاد الكافيه حيثُ توزّعت الطاولاتُ البسيطة التيْ تتوسّطها ورودٌ ورديّة وعلى جدرَان الكافيه عرضتْ أعمَالٌ فنيّة لفنانٍ تشكيليّ جزائريّ .. كانَ روّاد المقهَى يمضُون وقتهُم تارةً في الطاولات وتارة ً يغادرونهَا لمشاهدَة اللوحات المعرُوضة على الجدران وتصوِيرها .. وفي القسمِ الآخرِ من الكافيه ، عرضتْ لوحَات لفنانٍ تشكيليّ بحرينيّ عرّفني الأصدقَاء إليهِ بأنّهُ –إنّ صحّ حديثهُم- يشتغلُ حالياً على نحتِ شاهدَة قبر أدونيس .. صديقهِ الحميم .. وأنّ أدونيس يسافرُ بينَ حينٍ وآخر للبحرَينِ ليرَى ما نحتهُ هذا الفنان ..
هذا الجاليرِي يستخدمُ أيضاً لإدَارة فعاليّات ثقافيّة بداخلهِ .. داخلَ صالتهِ متوسّطة الاتسَاع نسبياً وقدِ اطلعنَا حينهَا على جدولِ أعمالٍ قادمَة سيحتضنهَا المقهَى ..
وبصرفِ النظرٍ فقد كانَ المقهَى بسيطاً في ديكُوره للغايَة .. لكنّه كانَ مدهشاً برسالتهِ التيْ يقدّمها للزبُون.. حيثُ يقدّم مع قائمَة الطعامِ ، جدولَ الأعمالِ القادمَة للترويجِ لها لدَى الزّبائن .. أليسَ هذا ما نحتاجهُ بالفعلِ في عُمان؟
في تلكَ الزيَارَة وضمنَ فعاليّات مهرجان الشّعراء الشّباب العرب أخبرنيْ المنظّمون أنّ الفعاليّة المخصّصة لإلقائي ستكُون في أصبُوحة تحتضنهَا إحدى المجمّعات التجاريّة في البحرين وحقيقة لم أكن قدِ استوعبتُ لتلكَ اللحظة أن الأصبوحَة ستقام في وسط مجمّع تجاريّ محاطين بالمحلات ومطاعِم المأكولات السريعَة .. أن يتحلّق كل جمعٍ منّا حول طاولة ونبدأ في إلقاءِ نصوصنا .. وفي الطريقِ إلى ذلك المجمّع التجاري كنتُ أشعرُ بالاكتئاب وأنَا أفكّر كيف سيبدُو مظهرنا والناس يتسوّقون في المحلاّت أو يطلبون الطعام من ماكدونالدز أو الكوستا أو غيره ونحن في الوسط نقيم تجمّعنا شعرياً ونرفع أصواتنا عبر المايكرُوفون بالشّعر..
قلتُ لصديقتي الشّاعرة السعوديّة التي كانت ستلقي معيْ في تلكَ الأصبُوحة .. كيفَ شعورك؟ فردّت ضاحكَة بنبرَة قلقَة : حاسّة أني رايحَة أستهبَل !
غيرَ أنني بعدَ ساعتين أيْ بعد انتهاء الأصبوحة كنتُ قد خرجتُ بفكرَة مختلفَة تماماً ..
كانَ الناس يواصلُون تسوّقهم بحركَة انسيابيّة دون أن يبدُو الاستغرَاب عليهم من فكرَة إقامتنا لذلك التجمع الشعريّ بمايكروفوناتهِ مكبّرة الصوت ربّما لتعوّدهم على هكذا فعاليّات ثقافيّة تقام وسطَ المراكز التجاريّة .. في الطاولات التيْ تتوسّط المطاعم السريعَة أقمنا فعاليتنا الشعريّة كانَ هنالك عددٌ من النَاس الذي يأكلُون .. حملُوا طعامهم وانضمُوا إلينا للاستمَاع وكانَ الجوّ مشجعاً جداً للإلقاء ، شاعرَة سوريّة جميلَة كانت برفقتنا علّقت بنبرَة جميلَة: يا الله كثير "cool" الواحد يعمل أمسيات بهاي الأماكن..
.. لقد خرجتُ من تلكَ التجربَة وأنا أفكّر: ترى لو أقيمتْ في عُمان فعاليّة ثقافيّة في طاولات المطاعِم السريعَة في السيتي سنتر أو البهجَة مثلاً أو مول تجاريّ هادئ هل سيكُون الأمرُ مماثلاً؟ ولماذا لم تجرّب أي مؤسسة ثقافيّة سواءً ممثلة ً في المنتدى الأدبيّ/ النادي الثقافيّ/ جمعيّة الكُتّاب العمانيّة/ وزَارة التراث والثقافَة ..
تجربَة النزُول إلى الشارع وصهر الثقافَة بالمكان العامّ .. حمل الثقافَة من منابرها الاعتياديّة إلى طاولات المقاهي السريعَة؟
ألا يستحقّ الأمرُ أن يحدُث ولو على سبيلِ التجربَة؟
اليَوم لم تعدْ دولَة تخلُو من وجُود الميادين الثقافيّة أو الفنيّة .. تلكَ التي لابدّ أن من سافر إلى دول كالمملكَة المتّحدة أو أستراليا أو الولاياتِ المتّحدة قد صادفهَا .. حيثُ تقَام أمام العامّة وفي مساحاتٍ مكشوفَة ومفتُوحة ، العرُوض الفنيّة والمعارضُ التشكيليّة والفعاليّات الثقافيّة المختلفَة التي تقَام أحياناً بشكلٍ محليّ أو فِرق خاصّة أو يتمّ استئجارها منْ قبل دولٍ أخرى لإقامةِ أيامٍ أو أسابيعَ وطنيّة ..
الخرُوج من جدرَان صالات المنابر الثقافيّة وحملها إلى الشاب العاديّ أو الشابّة العادية .. البحثُ عن أساليب جديدَة ليس في الثقافة نفسها فحسب بل في المكان الذي يحتضنُ الثقافَة .. كسر روتين الفعاليات الثقافيّة و إن لم تجد الفعاليّات من يَحْضُرُهَا من الشّارع العام فلتكنْ بالنزُول إلى الشارع العامّ وإغرائهِ ..
كمَا تطوّرت صنَاعَة النشرِ وصنَاعة الإعلان لتخرجَ من تابوهَاتها الاعتياديّة إلى الشارع والمركز التجاريّ والحدائق .. فإنّ صناعة الثقافة كذلك تستطيعُ أيضاً أن تحملَ من عقرِ دارها الاعتياديّ الذي لم يتغيّر منذ عشرين عاماً إلى الشارع والمركزِ التجاريّ والحديقَة إذ لو لمْ نغري شبابَ اليوم بوسائلِ الثقافَة الجديدَة ليحبّوها ويحترمُوها فمنْ يحمِلهَا عنا غداً ؟
عائشه
ردحذفهذا اجمل مقال قراته لك (:
بالفعل فكره جميله تستحق النظر فيها
المشكله هنا في عمان اننا شعب لديه فوبيا من التجريب ونتمسك بتعنت مخيف بكل قديم ...
سلمت اناملك
مسـاؤكِ خيْرٌ أختي
ردحذفمـوضوعُكِ اليوم رائع جِدّاً ..
ولو نُفِّذتْ هذهِ الفِكْرة مُتأكِّد أنّها سَتَجِدْ إقبـالاً مُنْقَطِعَ النّظير , فالوسط الثقافي العام مُتعطِّش لِمثلِ هذهِ الفعاليّاتِ والمَناشِط الأدبيّة التي تُحْتَكر في أمـاكِن مُعيّـنة أو في قاعاتٍ معيّنة أغلبهم لا يَعْرف مكانها ,, والذي يعرف المكان لا يعرف الزّمان التي سَتُقام عليها تِلك الفعاليّة !!
بِالفِعل نفْتَقِد للمَقـاهي الأدبيّة هُنا في السلطـنة ونفْتَقِر إلى الفعاليّاتِ المفتوحـةِ في الأمـاكِنِ العامّة .. حتّى للأسف في سيتي سنـتر الذي نعْتَبِره أكبر مُجمّع تِجاري في البلاد - والشّعب فرحان أنّه المواقف 3 طوابق - لا يُوْجد مسرح أو مكان مفتوح وواسع تُعرض فيه عروض ترفيهيّة حتّى !!
يا عزيزتي المقاهي في مصر لا تُوصف ..
لم تكُن فقط أدبيّة بل حّتى سياسيّة .. فقد جلسَ فيها سَعد زغلول ومحمّد مصطفى النّحاس وغيرهم من روّاد حزب الوفد وأيضاً روّاد الأحزاب الأُخرى والسِّياسيّون والنّواب والوُزراء وحتّى المَلِك فاروق جلسَ في تِلكَ المَقاهي البسِيطة ..
هُناك سبب مُهمّ في اعتقادي لانعِدام مثل هذهِ المقاهي .. هو عقليّات الاستثمـار المُتحجِّرة لدى رجال الأعمـال هنـا والذين يطمَعون في الرّبح السّريع دون التّفكير في مشاريع من هذا القبيل للأسف ..
الحَال يُرْثـى لهَا حقيقـةً ولكِن البَركَـة فيكم مَعْشر الأدباء في صُنْعِ التّغير ..
وأتمنّى أن يكونَ هذا المَقالُ فاتِحةَ خير .
ودّي
وأُكرّر اعتذاري للإطالة في تعليقاتي
ولكـن مقالاتك تفتح الشّهية للعبث بأزرار الكيبورد ..!!
آآآه يا سيفية .. ذكرتيني بوسط البلد ومقهى ريما وبابه الكرزي وهو على سفح سطح عقاره العتيق والليلة المظفرية الضخمة !!
ردحذفلن تكون هنا ... لن تكون عُمانية خالصة على الأقل
شكرا
مقالة حلوة ..
ردحذفالكلمة الصادقة والخالصة تجد طريقها في قلب ذاكرة الزمن.
ردحذفبارك الله فيك ونفع الله بك الأمة الإسلامية العربية
فكرة رائعة جدا.. أتمنى ان تطبق هنا في عمان
ردحذفلربما سيساعد ذلك على جذب الأسماع والأنظار للفعاليات الثقافيةالكثيرة التي تقام بلا جمهور.. اذ من الأفضل اليوم أن تقام الفعاليات حيث يتواجدالناس .
"فيْ عُمان لا تزَال ثقافَة المقهَى مغمُورة جداً بيننا .."
ردحذفليس المقهى وحده عائشة..كم تزخر عمان بأماكن تستحق ان نتبادل فيها هموم الوطن ..الثقافة..حرية التعبير..
قبل أشهر قليلة طلب مني احد المخرجين كتابة نص مسرحي وختار له مكان غريب.. القرية التراثية في حديقة القرم
يقول ان المكان يستهويه لإنه تراثي رائع!
بعد تفكير وجدت أنها فكرة جميلة لذا بدأنا العمل!
بصراحة تلهبني المشاهد التي تعرض المواهب المختلفة في شوارع الغرب وعلى أرصفتها..متعة ما بعدها متعة..
عزف..رقص..واشياء أخرى
لكن لو أقمنا جلسة شعرية او نقدية أو... هل سيتجمع الناس أم الحضور سيكون بعدد الأصابع شأن حضور النادي الثقافي المحشور في القرم هناك بعيدا..
ثم إن وزارة التجارة والبلديات ليس لديها تصور أن تكون هناك مقاهي يمارس فيها الأدب فلربما ولدت في أحد المقاهي فكرة جنوينة لا ترضي توجهات سياسة الإنغلاق وتكميم الأفواه التي تُتّبع في هذا الوطن!
طرح جميل وبلكونة يتناثر منها سكر الثقافة..
شكرا عــائشة