التخطي إلى المحتوى الرئيسي

بينَ "حانَة" .. وَ"مانة" !/رُدُهـات

عائشَة السيفيّ

ufuq4ever@yahoo.com


يُحكى أنّ رجلاً من رجال العربِ كانَ متزوّجاً بامرأتين .. وكانتِ الأولى قد تخطّتِ في عُمرها الأربعين.. بينما كانتِ الأخرَى حديثَة السنّ لا تكادّ تبلغ العشرين .. كانَ اسمُ الزوجَة الأولَى مانَة .. واسمُ الزوجَة الثانيَة حانَة .. وكانَ يقضَي ليلة ً مع الأولَى ثمّ يتبعها بليلةٍ مع الأخرى .. وكانَ كلّما دخل على الأولَى أمسكتْ بلحيتهِ وبدأت بنزعِ الشعر الأسودِ وهي تقُول: كلكَ وقارٌ وهيبة ٌ يا رجلي ..والشعرُ الأسودُ يذهبُ بوقاركَ .. بينمَا كانَ كلّما ذهبَ إلى الزوجَةِ الثانيَة مضتْ إليهِ وبدأتْ في نزعِ الشعرِ الأبيضِ قائلةً: والله كلما دخلتَ عليَّ وجدتكَ أكثر شباباً لولا هذا الشعر الأبيض ..

يوماً ما .. وقفَ هذا الرجلُ أمام المرآةِ ونظرَ إلى لحيتهِ فوجدَ أنّ كثيراً من شعر لحيتهِ قد ذهب .. فذهبَ مغاضباً وهوَ يقولُ: "بينَ حانَة ومانة ، ذهبتْ لحانا" .. وضرب قولهُ منذ ذلكَ اليومِ مثلاً ..

***

يقطعُ مئاتُ الآلافِ من الموظفينَ في الحكُومة والقطاعِ الخاصّ طريقهُم ذاهبينَ من أقصَى مسقط سواءً الخوض أو الحيل أو غيرها إلى الخوير والقرم وروي .. ذاهبين إلى مقارّ عملهم .. يمضُونَ قرابَة الساعة والنصف تزيدُ أو تقلّ بقليلٍ في طريقهِم للذهابِ ووقتاً مماثلاً في طريق العَودة .. خلال الساعةِ والنصفِ تلكَ يدخلُ مزاجهُم في حالاتٍ مزاجيّة مختلفَة الأطياف والألوان .. ينفدُ صبرهم على بعضهمُ البعض .. مزاميرُ السياراتِ تعلُو .. والوجوهُ عبُوس .. والجمِيعُ يفكّر: متى ستنتهي هذه المأساةُ اليوميّة؟

يرغبُ مئاتُ الآلاف هؤلاء بأن يقيمُوا قريباً من مقارّ عملهم .. لكنّ مطرقَة الانفجَار المروري تقابلها ..مطرقَة غلاء الإيجاراتِ والأراضي .. فكلّما ازددتَ اقتراباً من العذيبة .. الغبرة فالخوير فالقرم .. كلّما زادت الأصفار التيْ على يمين أسعار الأراضي التيْ تتحوّل في تلك المنطقة إلى ترفٍ لا يملكهُ إلا المليُونيرات ..

عاصمَة تديرُ أعمالها في مساحاتٍ ضيّقةٍ جداً .. وعلى الشعبِ أن يتحمّل نتائج ذلك ..

يرغبُون في استئجار شقةٍ معقولةٍ بالقربِ من مقرّ عملهم .. غير أنّ تضاعفَ سعر الشقة للضعفين من جنُوب مسقط إلى شمالها يُخرسِهم!

الجميعُ يفكّر حينها أيّهما أرحم .. خسَارة المال في شراء أرضٍ لن تبقي ولن تذر في ميزانيّة الموظف المسكين لمدّة 50عاماً.. في بلدٍ كعُمان يصنّف متوسّط دخل الفردِ فيها ب220ريَالاً.. أم خسَارة الوقت الذي يحتّم على المرءِ أن يشطب 3ساعاتٍ على الأقل باعتبار أنه لن يخرج إلا إلى عملهِ .. ناهيكَ عن "مشاويره" الأخرى التي يعلق فيها وسط الزّحام .. أن يشطب هذهِ الثلاث ساعات يومياً من حياتهِ وهو يقود سيّارته .. ضاغطاً على كابِحِ العجلة وهو يفكّر هل سأصابُ بآلامٍ في العظام بعد 10 أعوَام من تكرار هذا السيناريُو اليوميّ؟ ( 56% من سائقي السيارات الصينيين الذين مضَى على مدّة قيادتهم للسياراتِ أكثر من 10 أعوَام يعانُون من آلام في عظَام الأرجل تحديداً بالنظر إلى ضغطهم لساعاتٍ طويلة على كابحِ السيارة وسطَ الزّحام) ..

بينَ ارتفَاع أسعار الأراضي كلّما مضيت شمالاً في مسقط .. وبينَ ارتفَاع ضغطِ الانفجار المروريّ اليَوميّ يتذكّر المرءُ "حانة ومانة" وهو يتساءل: وسطهُما؟ أين ذهبَت لحَانا؟

***

العَاملَة رقم 20 .. التي يستجلبها ذلك الموظّف وزوجتهُ للعمَل في منزلهما .. أحضرا كلّ الجنسيات التيْ تخطر على البال ..

مكاتبُ استجلابِ العاملات .. وبعدَ أن فتحَت لها الحكُومة "الباب على الغَارب" أصبحتْ تقدّم ضماناً لمدّة شهرٍ لربّ الأسرة لكي يختبر العاملة .. وقبلها بأعوامٍ كانت المدّة 3 أشهر ..

على كلّ عاملةٍ يُفرغُ الموظّف ما يزيدُ عن 700ريَال حتّى تتحقّق أمنيَة إحضار العاملة إليهِ ..

يهمسُ لها صاحب المكتب أو مندُوبة المكتب التيْ تكون من نفسِ جنسيّتها: أحسنيْ الصنعَ خلال الشهرِ الأوّل .. وبعدُه .. "خلّي كفيل مال انتي يولّي" ..

الأولَى سرقَت نصف ممتلكاتهم .. والثانية سافرت بعد تحوِيل بيتهم إلى ماخُور وعادت وبطنها "مليانة" دونَ أن يعرفَ والدُ الطفل .. والثالثة اكتشفُوا أنها مريضَة ٌ بمرضٍ معدٍ لم ترسل بياناتهُ حينَ استجلابها ، والخامسَة اعتدتْ جسدياً على طفلِهما ، والسادسَة استعملت السحر ... إلخ ..

وإذا "دقّت في رأس" العاملة أن تضربَ عن العمَلِ فإنّ أقصى ما يمكن أن يفعلهُ المكتب هوَ توبيخها" ببالغ الرقّة" .. فلا وسائل رادعَة تعوّض هذا المسكين ما دفعه..

ثمّ تأتي المطالب الأخرى: تريدُ هاتفاً ، تريدُ يوماً في الأسبوع إجازة للخرُوج مع البُوي فريند .. وووو

كلّ هذا والسيناريُو يتكرّر .. لا تزال العاملة رقم 20 في ذمّته رافضاً أيّ أحدٍ أن يقبلَ تنازلَ كفيلها الأوّل عنها .. يضطرُ لاستجلابِ العاملة باسمِ أم العيال .. فإن اتضح أنها تعمل براتبٍ معقول فلا بأس .. وإلا فليشرب "ماء البحرِ" حتّى يجد الشخص "تعيس الحظّ" الذي يقبلُ أن يكفلَ عاملته الخمسين ..

بعدَ أن يستصدرَ شهادةً براتبِ زوجتهِ .. يقرّر أخذ إجازةٍ من عملهِ في مسقط، لكي يذهبَ إلى الجهة الحكُومية المسؤولة عن استصدار ترخيصِ العاملة رقم 21 في "البلد".. يذهبُ منذُ "يصيحُ الدّيك فجراً" إلى تلكَ الجهة وينتظر وينتظرُ حتّى يأتي دوره .. وأمامهُ يتخطّى فلان الفلانيّ قريب الموظف الفلانيّ طابُور المنتظرين .. ويتخطّى الهَامور الفلانيّ المائة شخص الذينَ ينتظرُون أمامه .. ويدخلُ قريب المدير من الباب الخلفيّ لكي ينهيْ معاملتهُ .. ينتهيْ اليَوم وهوَ لمّا يصل دورهُ إلى الموظفِ المناوب .. ويتمّ تأجيل رقمهِ لليوم التاليْ..

يتّصل بمديرهِ متوسّلاً أن يمنحهُ إجازةً في اليوم التالي وإن أذنَ لهُ مديرهُ ذهبَ إلى تلكَ الجهة الحكُوميّة في اليَوم التالي..

وبعدَ أن يصلَ دورهُ عند الموظّف في الساعةِ الثانية ظهراً .. يقولُ له موظف تخليص المعاملة .. اليُوم الأحد ، واليَومان المخصصانِ لتخليص معاملات عاملاتِ المنزل هما الثلاثاء والأربعاء .. بلا مبالاةٍ يكملُ دونَ أن ينظرَ إلى المسكين الواقفِ أمامه: "سوري صديقي ، تعال ف يوم ثاني"

وبينَ "هبشة" المال التيْ دفعها للمكتب، وبينَ "مرمطَة" الحكُومة ، وبينَ العاملة التي لا يدريْ هل ستأتي وتغادرُ بمصيبَة ! يقعُ ربّ الأسرَة المسكين بين المطرقة والسندَان .. تماماً كآلافِ أرباب الأسرِ العُمانيين الذينَ لديهم سيناريُو شبيه بما وردَ أعلاه .. وبينَ حانَة الجهَة الحكُومة ، ومَانة مكاتِب العاملات يتساءلُ ربّ الأسرَة: بينَ حانَة ومانَة.. أينَ ذهبَت لحانا !

تعليقات

  1. قارئة ..

    اليوم الصباح واحنا رايحين الدوام أنا وزوجي (نروح ف سيارة واحدة عشان ما نزيد زحمة مسقط مع أن أوقات عملنا مختلفة) قلت له "ياخي كرهت مسقط"، ساعات من يومنا تضيع ف الزحمة لأنا ساكنين بعيد عن الدوام وما نقدر نستأجر ف مكان قريب بسبب غلاء الإيجارات .. وفوق كذا نحتاج سنين وسنين عشان نقدر نجمع مبلغ نشتريبه أرض ف شي من سيوح مسقط .. وسنين فوقهن عشان نبني .. والإيجارات ما ترحم ..

    حاليا نفكر جديا نرجع البلد ونسكن هناك على طول ونشوفلنا وظائف حتى لو بنص الراتب .. ع الأقل هناك بنقدر نشتري أرض ب5 آلاف ونبنيها مع بعض وف نفس الوقت جالسين بيت أهله لحد ما يجهز البيت .. يعني ما نعق 280 ريال عشان إيجار ..

    ردحذف
  2. مـوضوعُ العُمّال بالفعلِ أصبحَ مهزلةً !!

    وأمرًا لا يُطـاقُ ..
    ولا يُوجَدُ نصُّ قانونٍ واحدٍ يحمي المُواطِن !

    بصراحةٍ تامّة " مصخرة " !

    أعـانَ الله المُوظَّف المسكين !!

    ردحذف
  3. الله يعينهم والله الحال مايسر لاعربي ولا غيره

    ردحذف
  4. أسلوبك في الكتابة رائع, ولكن المواضيع ليست مشوقة مثل سابقاتها.
    أتمنى من الكاتبة ان تكمل تطوير احترافيتها في الكتابة وتلتزم الدقة في الطرح.

    دائما متابع للإبداعات....

    ردحذف
  5. موضوعات اكثر من رائعة

    شكرا جزيلا

    ردحذف
  6. عواش وين توظفتي

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هلْ أنفقَ "قابُوس بن سعِيد" 64 مليُون دولار على منظمَاتٍ بريطانيّة؟

"قابُوس بن سعِيد يكرّم هيئة حقوق الانسان البريطاني 21 مليون دولار ومساعدَة للمنظمة المالية البريطانية 43 مليون دولار" هكذا وصلتنيْ رسالة تناقلهَا الناسُ مؤخراً عبر أجهزة البلاك بيري وبرنامج الوتسأب ومواقع التواصل الاجتماعي .. تناقلَ الناسُ الخبر "المُصَاغ بركاكة لغويّة" بحالة من الغليان حول تبرع السلطان قابوس لمنظمات بريطانية بـ64 مليون دولار. وصلتنيْ الرسالة من أشخاصٍ مختلفين ولم يستطع أيٌ منهم أن يجيبني على سؤالي حولَ مصدر الخبر .. كان جميعهم يتناقل الخبر دون أن يكلّف نفسه بالعودة إلى المصدر .. بحثتُ عبر الانترنت عن أيّ موقع أو تقرير يتحدث عن الهبةِ السلطانيّة "السخيّة" ولم أستطع الوصول إلى أيّ موقع إخباري أو رسميّ يتحدث عن التبرع. وحينَ حاولتُ البحث عن المؤسستين البريطانيتين المذكورتين أعلاهُ لم أجد لهما ذكراً على أخبار الانترنت إطلاقاً سوى مواضيع طرحها أعضاء منتديات وضعوا الخبر هذا في منتدياتهم وأشاروا إلى المؤسستين بهذا الاسم. حينهَا قرّرتُ أن أصلَ بنفسي إلى مصادر تؤكدُ لي –على الأقل- صحّة المعلومة من عدمها. حاولتُ البحثَ باللغتين عن مواقع ل...

إذا تريدوا ملابس العيد، روحوا رقطوا (1)

5 قيم تعلمتُها من أميّ: غزالة بنت ناصر الكندية   عائشة السيفي صبيحَة يوم الأحد غسلتُ أمي وكفنتها مع أخواتي. جهزتُ لها لبسةً من حرير فأبلغتني المكفنةُ أن علي أن آتي بلبسة من قطن تخلو من الزركشة. اخترتُ لها أجمل ملابسها وبخرتُها كما كنت أبخر ملابسها لعشرات السنوات كل عيد. أذنتُ في أذنيها، وتأملت أصابعها المنفرجة وأنا أضع بينها الصندل. كانت كقطعة الحرير ببشرتها الصافية وكنت أحدثها: ما أجملك حيةً وما أجملك ميتة. كان مشهداً عظيماً لا أعرف كيف ألهمني الله لأعيشه. أعرفُ أنني كنت شاخصة العينين ولا أذكر أنني بكيت كثيرا.. كانت دموعي تنهمر بصمت إلى أن حملوها في الطارقة وتواروا عن الأنظار. لا أذكر كثيرا مما حدث بعدها فقد سقطتُ طريحة الفراش ليومين. ماتت أمي غزالة بنت ناصر الكندية بعد رحلة ثماني سنواتٍ ويزيد مع مرضٍ لعين اسمهُ ملتي سيستم أتروفي. ومنذ جرى تشخيصها، جُبنا بها أطباء العالم لعلنا نجدُ لها علاجاً فكانت النتيجة واحدة: إنه مرض نهايته الموت، الفارق فقط هو حتى متى سيعيش صاحبه. لسنواتٍ عاشت أمي وعشنا معها معاناةٍ مريرة لا يعلمها إلا الله ونحنُ نتأمل بعجزٍ شديد كيف كانت تنتقل من و...

السيّد نائب رَئيسِ مجلسِ الوزراء ... الخُبز أم الكَعك؟

السيّد نائبُ رئيس الوزراء ... الخُبز أم الكعك؟ نسخَة من الرّسالة إلى وزيرَي التجارَة والصنّاعة والمَكتبِ السّلطاني. صاحب السموّ السيّد فهد بن محمُود نائبَ رئيسِ الوزراء.. تحيّة طيبة وبعد: دعني قبلَ أن أبدَأ رسالتيْ أن أحكي لكَ قصّة ماري انطوانيت .. آخر ملوك فرنسَا .. ففيمَا كانت الثورَة الفرنسية تشتعلُ والجماهيرُ الفرنسيّة الغاضبَة تحيط بقصر فرسَاي لتخترقه كانَت الجماهيرُ تصرخُ: نريدُ الخبز ، نريدُ الخبز! شاهدَت ماري انطوَانيت الجماهير يصرخُون من شرفَة قصرهَا وسألتْ كبيرَ خدمها: لماذا يريدُ الناسُ خبزاً؟ فأجابها: لأنهم لا يستطيعُون شراءه أيها الملكة! فردّت عليه بقمّة اللامبالاة والجهل: "إذا لم يجدوا خبزاً لماذا لا يشترونَ الكعك"! .. لقد كانتْ ماري انطوانيت تجهَلُ أنّ الكَعك أغلى من الخُبز فإن كانُوا عدمُوا الخبز فقد عدمُوا الكعكَ قبلهُ.. ظلّت هذه القصّة لأكثر من ثلاث قرونٍ من الزّمان حتّى اليوم مدارَ ضرب الأمثال في انفصَال المسؤُول عن واقعِ النّاس ومعيشتهم.. لأنّها كانت تتكررُ في أزمنة وأمكنة مختلفة. أتساءَل فقط سيّدي الكريم إن كنتَ تعرفُ كيفَ يعيشُ المواط...