التخطي إلى المحتوى الرئيسي

اسميْ عائشَة وهذهِ حكَايتيْ (5)

اقرَأ أولاً:

اسميْ عائشة وهذهِ حكايتيْ (1)

اسميْ عائشة وهذهِ حكايتيْ (2)

اسميْ عائشة وهذهِ حكايتيْ (3)

اسميْ عائشَة وهذهِ حكَايتيْ (4)


خطَّت يدُ "بلقيس" قريبتيْ على الأرضِ بالطبشُور ، لترسمَ مربعاتٍ متوَازيَة ومتقاطعَة .. مربعَان كبيرَان متتاليان رأسياً فمربعَان صغيرَان متوَازيان .. فمربعٌ أسفلهما أكبر حجماً فمربعَان صغيرَان متتاليَان ..

واستعدّتْ رجلايَ للقفزِ داخلَ المربّعات استعداداً للعبِ لعبَة "بو رجيلَة" التيْ كانَ شائعاً كثيراً لعبهَا بين الأطفال ..

أصحابُ الأقدام الصغيرَة والأجسَام الضئيلة كانُوا في الغالبِ من يفُوز فأساسُ اللعبَة هوَ ألا تطأ قدَم اللاعب على حدُود المربعات الخارجيّة فإن لمسها خسرَ اللعبة وأعطى الفرصَة لغيره..

بدأتُ بالقفزِ بخفةٍ داخلَ المربّعات وعيُون الأطفال الذينَ كانُوا معيْ ترقبُ أيّ زلّة قدمٍ أطأ بها حدّ أيّ مربع ..

وانتهَت اللعبَة بفوزيْ فقدْ كنتُ الأضأل بينهُم والأكثر خفّة ..

وكالعَادة انتهتِ اللعبَة ببكاءِ بلقيسَ لأنّها كانت الخاسرَة في أغلب الأحيان ملمحَة ً إلى أني دستُ الخط أكثر من مرّة وأنّ أحداً لم يلمح ذلك وأنّي أغشّ في اللعبَة .. أمّا أنا فكنتُ مزهوَةً بفرحَة الانتصَار ..

حانَ وقتُ الغداء ونادتنا جدّتي فذهبناً جرياً لملءِ بطوننا الصغيرَة وفيمَا كنّا منهمكِين في حشرِ اللقمَة تلو الأخرَى من قبُولي الدجاج الشهيِ الذي صنعتهُ أيادي نسَاء العائلة ..

ظهرتْ تلك المغنيَّة الجديدَة في التلفَاز.. كانَ اسمهَا أحلام .. فتاة عشرينيَّة بشعرٍ أسوَد طويل وناعِم .. ترتديْ الجلابيَّة الاماراتيَّة وتغنّي: "اللي ما يذوق العنب، حامض(ن) عنّه يقول"

نظرنَا إليهَا مشدُوهين فقد كانتِ المرّة الأولى التيْ نبصرُ فيها مغنيةً خليجيَّة على الشاشَة ..

كنّا نتطلّع إليهَا باندهاشٍ وعيُوننا ترَاقبُ خصلات شعرهَا التيْ كانتْ تنسدلُ على كتفيها بانسيابٍ عجيب..

علّقت بلقيس: تو ذي كيف شعرها كذا سايل سايل..

فأجابتْ أختي الكبيرة: هذا يسووله آلة تخلي الشعر اللي مثل شعر الجيعدَة ولا أحلى منّه ..

تحدّثت النساءُ كثيراً ، بعضهنّ بغيرَةٍ وبعضهنّ باندهَاش ونحنّ نرقبُ تلك المغنيَة الجديدَة .. وأنا لم أنتبهْ لكلّ ما قيل فقد كنتُ غارقة ً في أحلامي الخاصّة ..

وتخيّلتنيْ أقفُ على المسرح وأغنّي .. وشعري ينسدلُ على كتفيَّ كتلك المغنيَّة ..

وخلفي فرقة ٌ من الموسيقيين .. الطبالُون والعازفُون وغيرهم ..

تذكرتُ حينهَا مرارَة ما حدثَ لي .. زمنَ الأبلَة عيشة وزمَن أحلامِ "الطبّالة" الصغِيرة .. كنتُ لا أزالُ أعيشُ مرارَة ما حدَث وفكرتُ قائلة ً : لماذا حلمتُ أن أكونَ طبالة ً أتبعُ من يقودنيْ بغنائهِ؟ لماذا لا أصبحُ أنا التيْ تغنّي وتوجّه كلّ من خلفيْ بآلاتهم الموسيقيّة ليطوّعوهَا لصوتيْ ..

نعَم .. شعرتُ بحمَاسةٍ كبيرَة لفكرَة أنْ أمحُو فشليْ في الموسيقا بنجاحِي في الغنَاء ..

هببتُ واقفة ً وأسرعتُ إلى غسلِ يديَّ من بقايا الأرزّ الذي علقَ في يديَّ الصغيرتين من القبُولي ..

كنتُ أبتسمُ كثيراً وأنا أفكِّر .. نعم ، هنَا سيكُون مستقبليْ ، منذ اليَوم سأبدأ بالغنَاء..

***

اسميْ عائشَة .. في يومٍ ما كنتُ على وشكِ أن أعيشَ خرسَاء طوَال حيَاتيْ حينَ فكّرت أمي أن تعقد لساني عن البكَاء وأنا رضيعَة عبر كتَابة حرزٍ ورميهِ في إحدَى خراباتِ نزوَى بعدَ استشَارةٍ جماعيّةٍ مع الجاراتِ اللواتي قررنَ أنّه على كثرَة ما أنجبنَ من الأطفال فإنّهن لم يرينَ في حيَاتهنّ قطّ طفلَة ً تبكيْ بجنُونٍ كما كنتُ أفعل ..

وحدَها الأقدار الإلهيّة .. حالتْ دونَ أن أكتبَ لكم اليَوم وأنا غير قادرَة على قراءَة ما أكتب بصوتٍ مرتفع ..

لو أنّ والديْ استمَعَ يومَها لأمّي وهي تطلبُ منهُ أن يغيَّر اسميْ وفقاً لنصيحَة جاراتهَا أيضاً اللاتيْ استعنّ بعرافةٍ من عرّافات نزوَى من أنّ سبب بكائي الشدِيد عائدٌ لاسميْ وأنّه "لم يركب علي" .. وأنّ الاسم قد يكُون "نيراني" مختلف عن طبيعَة حاملَة الاسم .. لكانَت كثيرٌ من الموَازين تغيَّرتْ ..

غيرَ أنّ والديْ لم يفعلْ أكثَر من الاستمَاع لتوسّلات أمّي بصمتٍ ولم يعلّق سوَى بـ : "استهدي بالله يا حرمَة ، عائشَة زوجَة الرسُول عسَى أن تشبّ ابنتنا على نهجِها" ..

***

بعدَ يومَينِ من مشاهدتيْ لتلكَ المغنيَّة الجديدةِ التي أثارتْ حديثَ النسَاء ، وقفتْ عائشَة أمام جمُوع الطالبات في إذاعَة الطابُور الصباحيّ.. وخلفَ اعتيَادهنّ على صوتيْ وأنا أقدّم البرنامجَ الإذاعيّ فقد تركتُ هذهِ المهمّة لإحدَى زميلاتيْ –ليست عائشَة الأخرى بالتأكيد- لتقدّمنيْ إلى الطالباتِ قائلة ً : والآن .. نقدّم لكم هذا النشيد بصوت الطالبة: عائشة السيفيّ.. علتِ الدهشَة الطالباتِ فقد كانَ صوتيْ معتاداً لتقديم الإذاعَة لكنّها كانتِ المرّة الأولى التيْ أقفُ أمامهنّ وأشدُو ..

علتنيْ رهبَة ٌ وأنا أتقدّم إلى المنبرِ والعيُون متعلّقة ٌ بيْ .. وبدأتُ بصوتٍ مرتجفٍ أغنّي.. إلا أننيْ سرعَان ما دخلتُ في الجوّ ، فاكتسَب صوتيْ مزيداً من الثقَة واختفَى التشنّج الذي بادرنيْ في البدَاية ووقفتُ أغنيْ أمام الطالبَات ، مغمضَةً العين مستمتعة ً بجمالِ الكلمَات وهي تخرجُ من فميْ .. أغمضتُ عينيَّ بعمقٍ بينمَا كانَ فميْ يتحرَّك ومع أنغام النشِيد كانَ رأسيْ يتمايلُ يمنة ً ويسرَة :

طلعَ البدرُ علينَا/ منْ ثنيَّات الودَاع

وجبَ الشّكر علينَا/ما دعَى للهِ داع

حلمتُ أنّي أقفُ على المسرَحِ حاملة ً منديلاً كمَا كانتْ تفعلُ تلك المطربَة المصريّة التيْ تلبسُ نظّارةً شمسية ً دائماً .. حلمتُ فقط بالمنديل في يديْ إلا أنّي حلمتُ بشعريْ منسدلاً على كتفيَّ .. طويلاً ، أسوَد فاحم .. وأماميْ النساء والرجالُ يستمعُون بصمتٍ .. بينمَا وحدَهُ صوتيْ يتطَاير في أرجاء القاعَة الكبيرَة ..

حلمتُ بالطبَالين يضربُون الطبل على إيقاع الكلماتِ التيْ كانتْ تتراقصُ في فميْ .. وبذلك الرجلُ يوجّه بعصاهِ فرقَة العازفينَ خلفيْ .. المسرحُ معتمٌ تماماً سوَى من تلك الدائرَة الذهبيَّة من الضوءِ المركّزة على تلك الفتاة بشعرهَا المنسدل الأسود وبمنديلهَا الأبيض ..

انتهَى النشِيد وعائشَة مغمضَة العينينِ مستمتعَة بالنشيد ومستمتعَة بأحلامها الجميلة .. انتهَى النشيد وأنا لا زلتُ مغمضَة العينين .. وحشدُ الطابُور الصباحيّ ينظرُ إلى هذهِ الفتاة التيْ أطبقتْ عينيها منذ بدأت الغنَاء لكنّها لم تفتحهمَا حتّى حينَ انتهتْ ..

وأنا؟!

كنتُ أظنّ أنّي سأستمرُ في أحلاميْ الصغيرَة حتّى يقطعها صوتُ التصفيق الحَاد من حشُود الطالبات والمعلّمات أماميْ إلا أنّ ذلك لم يحدث .. وأطبقَ صمتٌ رهيبٌ على المكان ..

أنا مستمرَة في أحلاميْ التيْ لم يقطعهَا أيّ تصفيق.. وهنّ مستمرات في التساؤل عن سببِ إطباقي على عينيَّ حتّى بعدَ انتهَاء وصلَة الغناءِ..

ولمْ يوقفْ أحلاميْ الصغِيرَة سوَى تربيت مقدّمة الإذاعة على كتفيّ منبهةً إيَاي أنهُ حانَ وقت الاستيقاظ وحينها شعرتُ بتيارٍ كهربائيٍ يسري في جسدِي ليوقظنيْ .. ارتعشتُ فاتحةً عينيَّ لأرى الجمُوع تنظرُ إليَّ .. بجمودٍ غريبٍ ولكنْ دونَ تصفيق ..

وقفتُ لهنيهَة أستوعِب ما حوليْ ثمّ تراجعتُ للخلفِ وأنا أشعرُ بكميّة خيبَة تهشِّمُ عظاميْ ..

يا إلهيْ! إنّها المرّة الأولى التيْ أنشد فيهَا أمام هؤلاء الطالبات البليدَات اللاتيْ لا يملكنَ أيَّ حسٍ للتفاعلِ مع غنائي ..

تقدّمت الطالبات استعداداً للعودَة إلى فصولهنّ وبدءِ يومٍ دراسيّ جديد وأنا مشيتُ مع طاقم الإذاعَة المدرسيَّة ورأسيْ منحنٍ على الأرض تأخذنيْ الفكرَة تلو الأخرى ..

ربتت المعلّمة المشرفَة على الإذاعَة على كتفي وهيَ تلمحَ ما أعيشهُ من خيبَة وقالت: ما عليه، المرة الجاية بتسوي أحلى..

وهنا قفزتْ إحدى زميلاتيْ قائلةً: ها الشيمَة أبلة ، لا تشجعيها على مرة ثانية !

نظرتُ إلى تلكَ الفتاة بحقدٍ وركضتُ نحوَها لأنهَال عليها بقرصةٍ أو ضربةٍ تفرغُ حجمَ ما بيْ من خيبَة .. ركضتْ أمامي بسرعَة وركضتُ خلفها محاولة ً اللحاقَ بها .. ولم أشعرْ لحظتها هلْ كنتُ أحاولُ اللحاق بها أمِ اللحاق بأحلامي الكثيرَة التيْ رأيتها للحظةٍ تسيلُ أمامي بينما أحاولُ التشبّث بها وإقناعَ نفسيْ بأنّ هنالك فرصاً أخرى لديَّ لأثبتَ نفسيْ في ساحَة الغنَاء حتّى وإنْ عرقلهَا بعضُ الحاقدِين..

***

اسميْ عائشَة .. في الحاديَة عشرة من عُمريْ ، قررتُ أن أسلكَ طريق الغناءِ علّه يعوِّض قليلاً من فشلي الذرِيع فيْ التعاملِ مع الآلاتِ الموسيقيَّة ..

وأوَّل ما فعلتهُ هوَ جمع أكبر عددٍ من القصائد المدرسيَّة التيْ كنّا ندرسهَا وتلحينها .. ظللتُ لساعاتٍ طويلةٍ كلَّ يومٍ أتدرَّب على كلّ قصيدَة ، أغيِّر فيْ كلّ مرةٍ لحنَ غنائها.. تارةً أبدأ بلحنٍ وأنتهيْ بآخر.. تارةً أبدأ بلحنٍ وأنتهيْ بغناء القصيدَة على لحنِ أغنيةٍ مشهُورة .. وتارةً أغرقْ فيْ مقاماتِ الألحَان الصعبة التيْ تعجَزُ طبقَة صوتيْ عن اللحاقِ بها .. لكننيْ واظبتُ وبإصرارٍ شديدٍ على غنائها فطريقُ الغناء طوِيل وعليَّ الاجتهاد بهِ حتّى أثبت للجميع أنّ فشليْ في الموسيقَا ألهمنيْ لأنجحَ في الغنَاء..

وبعدَها بشهرينِ كنتُ أعدُّ نفسيْ لغنَاءِ قصيدَةٍ قرأتها في كتَاب أختيْ طالبَة الثانويَّة وكانتْ مجارَاة أحمد شوقيْ لقصيدَة "البردَة" للبوصيري..

ريمٌ على القاعِ بينَ البانِ والعلمِ/ أحلَّ سفكَ دميْ في الأشهُرِ الحُرُمِ

وهكذَا ظللتُ كلّ أسبوعَين أطلّ في الطَابُور الصباحيِّ لأنشدَ قصيدَةً من تلك القصائد التيْ كانتْ عينَاي تقعُ عليها في المنهجِ الدراسيّ .. وشيئاً فشيئاً بدأت الطالباتُ في التصفيقِ لي بعد انتهَاء وصلتيْ الغنائيَّة ..

وحينهَا بدأت معلَّمة اللغة العربيَّة أيضاً إسنَادَ إنشادِ أيّ قصيدةٍ جديدَةٍ نأخذها في المنهجِ الدراسيّ لأنشدهَا أمام طالباتِ الصفّ .. قبلَ أن تبدأ بقراءتها أمامنَا ..

كنتُ مستمتعة ً تماماً بالدورِ الجديدِ الذي بدأتِ المدرسَة بإسنَادهِ إليَّ .. حيثُ بدأتِ المديرَة في استدعَائي للغنَاءِ أمام أيّ مسؤولٍ يأتي من الوزَارة لأنشدَ له النشيد الترحيبيّ:

أهلاً بكم ومرحباً..يا أجمَل الزوَّار

أهلاً بكمْ في بيتكُم.. نهدِيكُمُ الأزهَار

نهديكُم أحلى المنَى.. ونعزفُ الأوتَار

وبعدهَا بأشهرٍ ذهبتُ مع فريق الجماعة الموسيقيَّة بالمدرسَة للتنافسِ مع بقيَّة مدَارس المنطقَة على المراكزِ الأولَى ، وكانتِ الطالباتُ يقدّمن معزوفاتٍ موسيقيَّة ورقصاتٍ أمام المقيّمين بينما تم اصطحابيْ معهنّ لأغنّي قصيدَة أحمد شوقيْ على عزف الأورج الذي كانتْ تلعبُهُ فتاةٌ أخرى ..

حينَ حانَ دوريْ تقدّمتُ أمام المقيّمينَ بثقةٍ فسألونيْ ماذا ستقدِمين لنا اليَوم، فقلتُ بثقَة: سأغنّي ، وكنتُ أرتديْ الزيّ العُمانيّ التقليديّ .. وما أنِ انتهَتْ وصلتيْ حتّى علّق أحد المقيّمين وهوَ يربّت على رأسيْ: منْ علّمك حفظ القصيدَة يا حلوة؟

قلتُ له: أنا تعلّمتها بنفسيْ وحفظتهَا، ولحّنتها أيضاً.. فضحكُوا جميعاً أمام جرأة تلك الطفلَة الصغيرَة بجسدهَا الضئيل جداً ومنحُوني علامَة ً مرتفعة ً في التقييم ..

كنتُ سعيدَةً باجتيَازي أولَى اختبارات الغناءِ .. وهكذا ظللتُ كلّ مرةٍ أقرأ قصيدَةً من المنهجِ وألحّنها وأغنيها ..

ثمّ تطوّرتُ لاحقاً بعد أن شعرتُ أنّي استوفيتُ غناء كلّ القصائد ولم يتبقَ ليْ ما أغنّيه.. فبدأت في نظم القصائدِ بنفسيْ على نسقِ القصائد الأخرَى التي أنشدتهَا.. وكنتُ أفعلُ ما يليْ .. أقرّر أنْ أكتبَ قصيدَةً ينتهيْ رويّها بحرفِ النون .. فكنتُ أجمّع الكلمَات قبل الشرُوع في كتابة القصيدَة إن صحّ التعبير .. أجمعها: الأمان ، المكان ، الزمان ، عمان ، إيمان ، إحسان .. إلخ ..

وأبدأ في صياغة الأبيات لأنهِيها بتلكَ الكلمَات .. وهكذا..

كنتُ كلّما وقفتُ أمام المقيّمين ، أنشدتُ تلك الأبيات وإن سئلتُ نسبتها إلى كبار الشّعراء فتارةً أبي نوّاس وتارةً المتنبئ وتارةً أخرى أحمد شوقيْ ..

هلْ كانتْ حِيَليْ مكشوفةً أمامهم؟ لا أعرف.. غيرَ أننيْ واصلتُ ما أفعَل مخترعةً كلّ يومٍ قصيدَة ً جديدَةً وشاعراً جديداً لأنسبهَا إليه..

إلى أنْ جاءَ اليَوم الذيْ وقفتُ فيهِ أمام ذلكَ الرّجل العراقيّ بشاربهِ الكبير وجسدهِ الضّخم .. كانَ يعملُ معلّماً في مدرستيْ نفسها إلا أنّه كانَ يعلّم البنين في المدرسَة المسائيَّة بينمَا كانتِ الفترَة الصبَاحيَّة لتدريس الطالباتِ ..

وقفتُ أمامهُ حينَ قدّمتنيْ المديرَة إليهِ مرةً وقدْ دخلتُ إلى مكتبهَا وتصادفَ وجُودهُ.. فقَالت لهُ: أنّ لديَّ صوتاً جميلاً في الغناءِ واختياراتٍ موفقة ً في القصائدِ المغنّاة.. وحينها سألنيْ هل لديكِ قصيدَة كتبتها شاعرَة؟ لتغنِيها ليْ..

وقفتُ مشدوهة ً للحظَات إذْ لم أكنْ قد غنّيتُ قطّ لقصيدةٍ كتبتها شاعرَة .. غيرَ أنّي استحضرتُ لحظَتها قصيدةً كنتُ كتبتهَا بنفسيْ .. فغنّيتها أمامهُ .. وما أنِ انتهَيتُ ، سألنيْ: أيّ شاعرةٍ هذهِ التيْ كتبتْ هذه القصيدَة؟

وقفتُ للحظاتٍ أحدّق إليهِ وقد أربكنيْ سؤالهُ .. إذ لمْ أكن قد مررتُ من قبل على قصيدةٍ لشاعرَة .. ولم يخطُر بباليْ أيّ اسمٍ حينها.. فكّرت طويلاً محاولةً استحضَار أيّ اسمٍ لأرميهِ أمامه.. ثمّ فجأةً لمعَ في ذاكرتيْ اسمُ تلك الشاعرَة التيْ مرّت عليّ في إحدَى الصحف .. لمْ أتذكّر اسمها جيداً فقدْ كانَ اسمهَا واسمُ والدها وقبيلتها تحملُ جميعاً أسماءَ صفَات .. قلتُ له: هذه القصيدة للشاعرَة العمانيّة الكبيرة: خاطرة بنت فارس السعيدي ..

نظرَ إليّ لثانيتينِ ثمّ انفجَر ضاحكاً وهو يقول: تقصدِين سعيدة بنت خاطر الفارسي؟

شعرتُ لحظتها برغبتيْ أن أمتلك حلّة الاختفاء وأختفي في اللحظةِ نفسها ، قلتُ له محاولةً الهرَب بإجابةٍ مقنعَة: آه لا هذهِ شاعرَة أخرى .. هنالك شاعرَة أيضاً اسمهَا خاطرة بنت فارس السعيديّ ..

نظر إليّ بابتسامَةٍ حنُونة وقد اكتشف حجمَ ما أعيشهُ لحظتها من إحراج وقالَ ليْ: لا بأس .. هذه القصيدَة ليستْ للدكتورة سعِيدة لأنّ القصيدَة بها ما بها من الكسُور ومستوَاها بدائيٌ جداً .. هذهِ من كتاباتكِ ..

أنتِ لا تجيدين الغناءَ .. لكنّك تكتبين بشكلٍ جيد جداً مقارنةً بسنّك .. وأنا متأكّد أنّك ستكونين أفضّل بكثير في إلقاء الشّعر عوضاً عن غنائهِ ..

قالَ ليْ: تعاليْ إليّ غداً في نفس الوقت .. سأعلّمك إلقاء الشعرِ .. ومنهَا ستتعلمينَ شيئاً فشيئاً وزنَ القصيدَة.. لربّما تستطعينَ يوماً أن تكتبيْ قصيدَة موزونَة .. من يدريْ؟

نظرتُ إليهِ بنظرةٍ خجولةٍ جداً.. وغادرتُ غرفَة المديرَة ، أجرّ قدميَّ كالمصَابة بمسّ .. كنتُ أمشيْ ببطءٍ شديد وأماميْ كنتُ أرى أحلاميْ تتبخّر ..

تتطايرُ أماميْ صورَة الفتاة بشعرها المنسدل.. يتطايرُ المنديل.. يتلاشى الجمهُور .. ويتبخّر الرجل بعصَاه وهو يوجّه جوقَة العازفين .. ومعه يتبخّر العازفُون كذلك ..

شعرتُ بالإعياء الشديد كمنْ وخزنيْ بإبرَة تخدير.. كيفَ استطاع هذا الرجلُ دوناً عن البقيَّة أن يكشف حيَليْ؟ كيفَ ميّز أن القصيدَة من كتابتيْ؟ وكيفَ لم يقنعهُ صوتيْ بقدرتيْ على الغنَاء؟ وهلْ سأعُود حقاً غداً إليهِ ليعلّمني ما وعدنيْ بتعليمهِ؟

الكثير من التساؤلاتِ التيْ شعرتُ بها تدويْ في رأسيْ الصغِير .. وأنا أصعَد الدّرجَ عائدةً إلى صفّي الدراسيّ .. عينَاي معلّقتان بالسقفِ .. لا أرى من حوليْ .. فقط موجةٌ من الأفكارِ تهدرُ داخليْ ..

فجأة ً وجدتُ قدميْ تنزلقُ من الدرجِ وجسديْ يهوِي على بلاطهِ .. وكانَ آخرُ ما شعرتُ بهِ هوَ رأسيْ مرتطماً بأرضيَّة الدّرج وحينهَا تطايرَت كلّ تلك الأسئلة والأفكار .. انفجرَتْ كشظَاياً زجاجيّة ، ومعها تطَاير كلّ شيء.. وأنا؟ غرقتُ في عتمةٍ لذيذةٍ جداً انتزعتْ كلّ ذلك الفيضَان الهائل من الأفكار ، الخيبات .. والأسئلة ..

انتزعتْ مشهَد الحشدِ الذيْ يستمعُ لغناء تلك الطفلةِ في الطابُور الصباحيّ ..

انتزعتِ مشهَد الطفلة بزيّها العمانيّ وهي تقفُ أمام أربعةٍ من المقيّمين.. انتزعتِ القصائد المقفّاة التيْ كنت أنظمهَا كلّما شعرتُ بحاجتيْ للغناء ..

كانَ السقفُ بعيداً للغايَة وأنا غارقةً في أفكاري وخيباتيْ .. لكننيْ شعرتُ به يقتربُ أكثر وأكثر وأكثر وأنا غارقَة في العتمَة وأصوَاتٌ صاخبَة حولي.. "عايشة السيفي طايحة، أبلة تعالي شوفي عايشة السيفي" الأصوَات حولي تزدادُ والفتياتُ يرددنَ اسميْ المركّب دائماً : "عائشة السيفيّ" .. وعتمة ٌ لذيذةٌ تحيطُ بالمكان ..

العتمَة اللذيذًة ذاتها التيْ شعرتُ بها وأنا أغمضُ عينيّ في المرّة الأولى وأنشدُ فيها أمام الحشُود:

طلعَ البدرُ علينَا/ منْ ثنيَّات الودَاع

وجبَ الشّكر علينَا/ما دعَى للهِ داع

***

اسميْ عائشَة .. قررتُ في يومٍ ما أن أصبحَ مغنيَّة حينَ رأيتُ تلك المغنيَّة بشعرها الأسود المنسدل على التلفزيُون.. لا أعرفُ لماذا أقنعتنيْ بفكرَة الغناء؟ هل كانَ شعرهَا من فعل؟ صوتها؟ أم خيبتيْ من فشليَ الموسيقيّ؟ وأيّ قدرٍ من الأقدَار ساقَ ذلك العرَاقيّ المسمّى: جبّار حسين.. ليغيّر كلّ حياتيْ ، ويقلبها رأساً على عقِب.. مقرراً أني سأكتبُ يوماً قصيدةً موزونَة ً أجمل مما ألقيتهُ أمامه.. وأننيْ سأكون في إلقاء الشّعر أفضل من غنائهِ .. ترى ما الذي قرأه ذلك الرجل في عينيَّ ذلك اليَوم؟ وكيفَ استطَاع فعلاً أن يأخذ بيديْ ويقولَ ليْ: أنتِ هنا ، لا هناك !

اسميْ عائشة.. وكانَ اسمهُ جبّار حسين.. آمنَ بيْ ، وآمنتُ أنا بالأقدَار التيْ ستضعُ عائشَة في طريقهَا الصحيح ربّما .. ترَى لو كانَ اسميْ سارَة! أكَانت الأقدَار رسمتْ لي خطاً آخر مختلفاً عمّا رآه جبّار حسين يومها؟

اسميْ عائشَة .. وكانتْ لي حكَاياتٌ مع الموسيقا والغناء ، قدَران حاولتُ صناعتهمَا بكلّ ما أمتلك من شرَاسَة فلم أفلح إلى أن جاء ذلك اليوم الذي جمعنيْ بذلك الرجل ومعهُ بدأتْ حكَاياتٌ أخرى مع الشّعر .. ذلك القدر الغريب الذي لم أخطط لهُ يوماً وظلّ دائماً ذلك الزَائر المفاجئ ، المفاجِئ تماماً كسؤال جبَار حسين عن الشّاعرة التيْ كتبتْ تلك القصيدَة المكسُورة وإجابتيْ إيّاه.. إنّها الشاعرة الكبيرة: خاطرة بنت فارس السعيديّ !


تعليقات

  1. جميل يا عائشة سعيك وراء تحقيق أحلامك و جميل يا عائشة عدم يأسك في العثور على رسالنك و هدفك في الحياة....

    نعم للقدر طرق خفية يوجهنا بها نحو تحقيق أحلامنا ...

    فلتستمري يا عائشة و ليكن القدر معك ....

    تحياتي

    ردحذف
  2. آه يا عائشة
    يالهول ما تكتبين،،، لو كان كل منا يملك ما يحسن به صياغة ذكرياته الجميلة،،،لوجدنا الكثير الممتع .
    لا أدري أنت تكتبين عائشة السيفي،،أم تكتبين انا أو ذاك أو تلك.
    جميل أن لا نحرم من هكذا إبداع،،،وحري بنا أن نتابع ما تدونه وتنسجه بصدق وجمال الاخت عائشة السيفي.
    دمتي
    أبراهيم البدري

    ردحذف
  3. بصراحة أبكيتيني ضحكا...أرجو التواصل معي

    معك هناء المالكي
    البريد الالكتروني:
    alsanator5115@live.com
    اسمك جميل كجمال روحك المرحة

    ردحذف
  4. إبداع وطريقة طرح الافكار تجعلك تعيش الحدث بتفاصيله...... والى المزيد عائشة

    موسى الأمير.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن كُورونا، وفقر اللقاح، والشّعب العُمانيّ القنوع: أسئلة غير قنُوعة إطلاقاً

  تحذير: إن كنت لا تحب لغة الأرقام فلا تقرأ هذا المقال   في نُوفمبر 2020، سألتُ مارجي فان جوخ، رئيسَة وحدة المواصلات واللوجيستيات في المنتدى الاقتصادي في دافوس عن استقرائها لشكلِ السباق العَالمي نحوَ اللقاح فأجابتني بأنّ حربَ اللقاحات قد بدأتْ بالفعل وأنّ كل دولة ستكونُ معنية بشعبها فحسب، وأنّ ثلاث عوَامل ستحددُ أسبقية الدول في الحصول على اللقاح، أولاً: ذكاء السياسيين في كلّ دولة وحنكتهم الدبلوماسية ستوضع تحتَ الامتحان الحقيقي لاختبار مِرَاسهم في التفاوض على أكبر عدد من الجرعات مستغلةً علاقاتها الدولية وشبكة معارفها للحصول على أكبر كمية بأسرع وقت ممكن، ثانياً: قدرة فرقهِم الاستراتيجيّة على استقراء مستقبل إنتاج اللقاح وأيٍ من شركات إنتاج اللقاح ستنتجُ أولاً وبفعالية تحصين أكبر وثالثاً: قدرتها المالية التي ستحدد مقدرتها على المخاطرة بشراء لقاحات لم تعتمد بعد بناءً على استقرائها للمستقبل، (إنّها مقامرَة عليهم اتخاذها وإلا فالنتائج وخيمة). معربةً عن قلقها من أنّ المرحلة القادمة ستفتقد المساواة في توزيع اللقاح. (عائشة، إنهم يجوبون العالم -بينمَا نتحدّثُ- بملايين من الكاش لحجز اللق

اسميْ عائشَة . . وهذهِ حكايتيْ ! (1)

ملاحظَة للقارئ قبلَ الشّروعِ في القرَاءَة: عائشَة حياتهَا. . صفحة بيضَاء جداً ! أشاركُ قليلاً من بيَاضها إيَّاك وأودعُ الباقيْ لهَا ولمن تحبّ .. إذا كنتَ تحملُ مسبقاً أيةَّ "مخلّفات داخليَّة سوداء" فالرجَاء عدم القرَاءة حولَ عائشَة: عائشَة .. قد تكُون أنا أو قد تكُونُ أنتَ .. وليس بالضرُورَة أن تكُونَ من تقرأ لها الآنَ في هذهِ المدوّنة قد يتضمّنُ أدناهُ حكَاياتِي أنا .. وقد يكُون خليطاً من حكاياتِ صديقاتٍ أخريَات .. أجمعها في حياةٍ واحدَة حافلة تستحقُ أن يمتلكَ صاحبها حلماً جميلاً عائشَة التيْ أحكي عنها هنَا.. كائنٌ يحلمُ بحياةٍ جميلة رغمَ يقينها أنّ الحياة لن تكونَ ذلك بالضرُورة .. وهي فتاة ٌ بسيطَة جداً .. يحكيْ بعضهُم .. أنّها لا تزالُ طفلة ً ترفضُ أن تكبر .. ويقولونَ أنّها تحوَّلتْ إلى زوجةٍ عاديةٍ غارقةٍ في تفاصيلِ حياتهَا اليوميَّة بعد زواجها .. يقولُ بعضهمْ أن عائشَة لم تعُد تهتمّ كثيراً بمن حولهَا .. وأنّها تحوَّلتْ -كآلافِ البشر حولنا- إلى كائنٍ غير معنيّ بالضرورة بجدالاتنا الثقافيَّة اليوميَّة المملة .. التيْ قد أثيرها أنا أو أنتَ أو عبيد أو جوخة أو علياء من المثقفي

قلْ لي أنت تعمل في الديوَان.. أقل لك كم جنَيت؟!

جارنَا أبو أحمَد .. الذي أخبرتكُم عنهُ ذات مرَّة .. الرّجل الصادق الصدوق الذي نذرَ نفسهُ ومالهُ في خدمَة الناس .. كانَ كلّما أخرج صدقة ً أو زكاة ً للناس .. جاءهُ أناسٌ أثرياء آخرون يطالبُون بنصيبهم من الزّكاة .. وذلك لقولهم أنّ أبا أحمد يوزّع معونات يصرفها الديوان لهؤلاء الفقراء .. يأتون طارقين الباب مطالبين بحقّهم قائلين: نريد نصيبنا من فلوس الديوان .. ورغم أنّ أبا أحمَد لم يتلقَ في حياتهِ فلساً لا من ديوَان السلطان ولا ديوَان هارون الرشيد .. إذ بنى نفسه بنفسه .. فامتهنّ كل المهن البسيطة التي لا تخطر على البال .. بدأ عصامياً وانتهى .. لا أقول ثرياً وإنما ميسور الحال .. أذكرُ أنّ امرأةً أعرفها وهي من قبيلة البوسعيد .. وهي من العوائل التي تستلم نهاية الشّهر راتباً شهرياً بثلاثَة أصفار لا لشيءٍ سوَى أنها تقرب لفلان العلانيّ الذي يشغل منصب مدير دائرة الصحون والملاعق في الديوان الفلاني أو البلاط العلاني وهي أيضاً "تصير ابنة عم ولد زوجة خال الوزير الفلاني" ذهبت تشتكي مرةً من أنّ أبا أحمد لابد أنه يتلقى مبالغ أكثر منها من الديوان فلا هو ابن سفير ولا ابن أخت زوجة الوزير ولا هو من أص