التخطي إلى المحتوى الرئيسي

سعِيد .. بين عُمان والولايات المتّحدة ، سيرَة منسية من الوطَن !

أشارَ إليهِ "قريبي" ونحنُ في السيّارة .. "هذا هوَ" ، كانَ يهمّ بدخُولِ منزل أهلهِ .. قلتُ له: رائع، أسرِع إليهِ وألقِ التحيّة .. اجلسَا سوياً ، وتحدّثا حديثَ صديقين ، أرجوك اخرج معهُ بحل .. قالَ لي قرِيبِي: الآن؟! قلتُ لهُ نعَم ، الآن في التوّ واللحظة هذه لحظَة لا تفوّت ..
تردّد قرِيبِي قليلاً ثمّ حسم أمره.. دقّ الجرس فخرجَتْ والدتهُ .. امرأة عجُوزٌ بدَت في نهَاية ستينيّاتها ، سلّمنا عليها ثمّ طلبَ قرِيبِي أن يرَى ابنها سعِيد ..
وقفتِ المرأةُ مشدوهة ً قليلاً محاولة ً التعرّف على ملامح قرِيبِي ثمّ افترت عن ابتسَامةٍ واسعَة: صديق سعِيد !
تعرّفتِ المرأةُ إلى صديقِ ابنها ودعتهُ إلى الدخُول .. بيتٌ نصفُ طيني من طابِق واحِد .. تبدَّتْ أسياخُ الحديد من خلفِ الاسمنتِ الرخِيص في الأسقف .. انتظرتُ في بهوِ صالةٍ افترشتْ ببساطٍ بلاستيكي بينما دلفَ قرِيبِي إلى المجلس ..
دخلتِ الأمّ إلى غرفةٍ واستطعتُ لصغرِ حجمِ المكَان أن أستمعَ للحوَار الدّائر بينَ الأمّ وابنها: سعيد قوم ولدي .. صديقك فلان جاي يشوفك ، فلان صديقك "بأمريكيا" .. انتظرَ الابنُ عدّة ثوانٍ ليجيب أمه ..: ماه كم مرّة قايلك بو يسأل عني قولي له ما موجود ما باغي اشوف حد
الأم: تعوذ من الشيطان يا ولدي ، الرجال واصل للبيت يسأل عنك روح جلس معه وخذ منه العلوم
لم يرد الابنُ إطلاقاً على أمّهِ .. ساد صمتٌ غريب.. قطعتهُ الأم: قوم يا ولدي ، خلي عنك الرجال ينتظرك ف المجلس
لم يجِب الابنُ أمّهُ سوَى بالصّمت .. وحينَ يئستِ الأمّ خرجَت .. وقعتْ عينها عليّ مباشرة ً وانتبهتْ إلى أنّي سمعتُ الحوَار .. ظلّت لدقائق في مكانها لا تعرفُ ما تفعل .. ثمّ تقدّمتْ إليّ وجلستْ بجانبي ..
قالتْ لي : رفض الخرُوج ، انصحيني يا ابنتي ما أفعل، ولدي يروح علي قدامي .. وأجهشت بالبكاء ..
صعقنيْ الموقف .. لم أشعر بنفسي وأنا أضع بيدي على ظهرها لأواسيها ، قلتُ لها: ادعي له ، فردّت بحرقة: ليل نهار و"دعاواي ما توقف" .. حتى الأكل تو ما يوكله ، أقوله يا ولدي اقرب كل معاي ومع أبوك ، مكانه ف ذيك الغرفة قافل ح عمره !
مكثتُ دقائق ثم استأذنت .. والتقيت بقرِيبِي في الخارج ، بادرني سائلاً: رفض الخروج لمقابلتي ، صح؟
أومأت له برأسي ، وانتظرتُ لحين ركوبنا السيّارة لأخبرهُ بالحوار الذي دار.. وحينَ انتهيت عقّب قرِيبِي: صحيح ، سعيد وضعه متأزم !
.
.
سأحكِيْ لكُم عن سعِيد الشاب العُماني الذي تخرّج منذُ ما يقارب عشرة أعوَامٍ من إحدى مدارسِ البنين الثانويّة بإحدى قرى المنطقَة الداخليّة .. حصلَ هذا الشاب حين تخرجهُ على معدلٍ عالٍ جداً حاجزاً المركزَ الثالث على السلطنَة في القسم العلميّ .. ليشقّ طريقهُ إلى الولاياتِ المتّحدة متخصصاً في هندسَة الطاقة والالكترونيّات بواحدَة من أكبر جامعات الولايات المتّحدة المتخصصة في التكنولوجيا والعلُوم ..
وفي المطَار التقَى قرِيبِي الذي شاءتِ الأقدارُ أن يحصلَ على بعثَة أخرى بنفسِ الجامعَة بل وبنفسِ الكليّة وكمْ كانَ سعيداً للقاءِ شابٍ عُمانيّ سيقاسمهُ الحياة والدراسَة في بلاد الغربة ..
بدآ الدرَاسة سوياً .. إلا أنّ طريق كلٍ منهما كانَ مختلفاً .. التحقَ سعِيد للعيشِ بعائلةٍ أميركيّة إلا أنّه خلال 6 أشهر بدّل أربعَ عائلات وكانَ السّبب هو عدم ارتياحهِ لنمط معيشَة الحياة الأميركيّة .. همسَ لقرِيبِي: ما قادر أعيش وأنا أشوف ذلا الكافرات الـ(......) ..
أصرّ سعِيد على الانتقال بمفرد خاصّة ً مع تزامنِ وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتخوّف العائلات الأميركيّة أساساً من مظهره الملتحي وانعزاله الشديد وعدم اختلاطه بها ..
كانَ سعيد شاباً ملتحياً .. مواظباً على الصّلوات في المسجد القريب منه في تلك الولاية الأميركيّة .. وخلال أوّل عامٍ من دراستهِ لم يستطيع الاحتكاك مع أيّ طالب "عماني، عربيّ ومن بابٍ أولى أجنبيّ" .. وكان الشخص الوحيد الذي يلتقي بهِ هو قرِيبِي وحينَ أبدَى سعيد عدم رغبتهِ في العيشِ مع العائلة الرابعة .. طلبَ من قرِيبِي أن يبحثَ لهُ عن شقّة صغيرة ليعيش بمفردهِ وبالفعلِ حصلَ على شقّة صغيرة اقتسمهَا مع شابٍ عمانيّ آخر ..
ومنذ أوّل شهرٍ في الجامعةِ لفتَ سعيد أساتذته بذكائهِ .. كانَ يحصلُ على العلاماتِ كاملة ً ..لم يكنْ منخرطاً في أيّ أنشطةٍ طلابيّة .. مقسماً وقتهُ بين الجامعة وشقتهِ والمسجد .. ولم تمضِ أشهر سوَى وأتى الشاب الذي يقتسمُ معه الشقّة شاكياً لقرِيبِي الذي توسّط لسعِيد ليقيم معهُ .. طلبَ الشاب من قرِيبِي أن يطلب من سعيد المغادرة .. فهوَ يتناول الأطعمة ويضعها في المطبخ ، مشتكياً من قلة النظافة والإهمال الذي يبديه سعيد في الشقّة .. قال لقرِيبِي: حين أدق على غرفتهِ الباب لا يخرج رغم وجودهِ فيها ، لا يوجد أيّ حوارٍ بيننا ..
وهكذا بحث قرِيبِي لسعيد عن شقةٍ أخرى فلم يجد مكاناً يناسبهُ سوَى استوديو صغير في قبوِ إحدى العمارات لينتقلَ سعيد للإقامة بهِ ..
سوفَ يتساءل جميعكم.. هل قرِيبِي مضطر ومسؤول عن إدارة أعمال سعيد وانتقالاتهِ وترتيب أموره؟ وسأجيب أنّ سعيد لم يكن يبدي اهتماما في حياتهِ بأيّ شيءٍ سوى بالدراسة .. وقد تعامل مع قرِيبِي وكأنهُ أخوه الكبير المسؤول عن إدارة أمورهِ بدلاً عنه .. فكانَ قرِيبِي ينهي معاملات الفيزا وتذاكر السفر وكلّ أمور الإقامة المتعلقة بهما ..
ولم يذهب اهتمام سعِيد بدراستهِ سدَى فمنذ أوّل فصلٍ دراسيٍ له في الجامعة حصدَ سعيد على المركز الأوّل بين طلاب الهندسة ليتربعَ اسمهُ ضمنَ لوحة الشرف في الكليّة .. بل ويحصدَ أعلَى معدّل سجّلتهُ الكلية منذ ثماني أعوَام ..
لقد لفت ذكاؤهُ الجميع .. طلبة ً وأساتذة ..
كانَ زملاؤه الأجانب والعرب حينَ يعجزونَ عن حلّ مسألةٍ في واجبٍ دراسيٍ بمادةٍ معيّنة يطلبون من قرِيبِي التوسط لهم عند سعِيد ليعطيهم حلّها وكانَ سعيد يبدي رفضهُ بالتأكيد .. ليثير النكاتَ بين زملائه العمانيين الذين يعلقون: هذيلا الأجانب ما يعرفوا سعيد .. عماني حاسد أصيل ..
وسرعَان ما بدأ زملاؤه في القسم بتلقيبهِ بألقابٍ اعتادُوا على تدويرها بين الطلابِ المبالغين في اجتهادهم فأصبحت تسميَة سعيد بين زملائه في الجامعَة
(The nerd beard)
أو بالعُماني "اللحية الحشاشة" نسبة ً إلى لحيَة سعيد التي يطيلها وإلى كونهِ طالباً مجتهداً للغاية لا حياةَ لهُ سوى في الدراسة ..
وحتّى حينَ طلبَت جماعة الطلاب المحترفين في الرياضيّات من سعيد الانضمام للجماعة للمنافسَة في فعالياتها وتمثيلها في المسابقاتِ الدوليّة والأميركيّة أبدَى سعيد رفضهُ لأنّه لا يرى أيّ أمرٍ يثير اهتمامه عدا عن المنهاج الدراسي وأما ما خارج ذلك فهو "مضيعَة للوقت" ..
كانَ اهتمامُ أساتذة سعيد بهِ يزداد خاصّة مع ابتكاره حلولاً خارج المنهاج الدراسي لحلّ مسائل الرياضيات التي تعطى لهم في المواد الدراسيّة .. بل وكانَ الأساتذَة يخصصُون محاضرَات لشرح أساليب حلّ سعيد للمسائل لزملائه مبدين انبهارهم بأدائهِ الدراسيّ ..
إضافة إلى ذلك ظلّ سعيد مواظباً على زيادة عبئهِ الدراسي من الموادّ وذلك لاستمتاعهِ بالدراسة .. ومعَ مرورِ السنوَات بدأ سعيد يبدي رفضهُ في العودَة إلى بلادهِ حيثُ كانَ والدهُ ووالدتهُ يتحرّقان لرؤيتهِ فكانَ يمضي الصيف دون أن يعود لعُمان .. بل ومرّ آخر عامين من الدراسة دون أن يراهُ أحدٌ في عُمان .. كانَ سعيد قليل التواصل مع عائلته حتّى أنهم في كثيرٍ من الأحيان وبعد أن تمضي شهُورٌ على اختفائهِ عنهم يبادرُون بالاتصالِ بقرِيبِي ليسألوه عنه فيتّصل بهِ لتوبيخهِ لامتناعهِ عن التواصل بعائلتهِ ..
لم يكنْ لسعِيد إخوَة سوَى أخ واحد .. أمّه ووالده أنجبا الكثير من الأطفال الذينَ ماتُوا .. كانَا كبيرين في السنّ .. الوالدُ أعمَى والأمّ امرأةٌ عجوزٌ قضت حياتها وهيَ تعتني بطفليها .. الأكبر التحق بالجيش في وظيفةٍ صغيرَة والآخر حاز كلّ تلك العبقريّة وسافر عنهُما ليتركهما وحيدين يتقاسمَان العزلَة والانكسَار ..
وفي السّنة الأخيرَة من درَاستهما .. وفي إحدَى موادّ الطّاقة التيْ يدرّسهما إياها بروفيسُور يهودِي كانَ من أكثر أساتذة الكليّة ذكاءً وألمعيّة .. وكانَ مشهُوراً بين الطلاب بولائهِ الشديد لاسرائيل التيْ يتبين ذلك بمجرّد دخول مكتبهِ فتجدُ علم اسرائيل الصغير في مقدّمة طاولة مكتبهِ .. وحين يتصفّح أيّ طالبٍ ملفّ البروفيسور يرى عددَاً من إنجازاتهِ وابتكاراتهِ العلميّة وفي مقدّمتها إشرافهُ على تصميم نظام الأمن والسلامة في قواعد الجيشِ الاسرائيلي ..
استرعَى ذكاء سعيد ذلك البروفيسُور ورغمَ تعصّبه الشديد لاسرائيل إلا أنّ البروفيسور كانَ مهنياً للغاية مع طلابهِ فكانَ حينَ يلمحُ ذكاءَ أيّ طالبٍ لديهِ يبادرُ إلى خصّه بمسائل أكثر صعوبَة مختلفة عن المسائل التي يطرحها على طلاّبه ..
لفتَ ذكاء سعِيد انتباه البروفيسور ، رغمَ كونهِ شاباً مسلماً ومتديناً .. فاستدعاهُ لمكتبهِ .. وهناك عرض الدكتور على سعِيد أن يعطيهُ "وحدَه فقط" وفي مكتب الدكتُور كلّ أسبوعٍ دروساً إضافية ً في المادّة وتعليمهِ موادّ أخرى غير مقررة في المنهج الدرَاسيّ وذلك لتعقيدها وارتفاعها عن مستوَى الذكاء العلميّ للطلاب.. ولمْ يكنْ ردّ سعِيد سوَى الرّفض .. لامهُ قرِيبِي بشدّة على رفضهِ لتفويتهِ تلك الفرصة التيْ لا تتكرر لدى ذلك البروفيسُور .. فردّ سعيد: ما باغي من اليهود علم ! خاصّة ذا الكافر !
انشغلَ قرِيبِي بدراستهِ كذلك وبحياته الجامعيّة والاجتماعيّة بين الطلاب وفي السنَة الأخيرة لم يعد يرَى سعيد كثيراً وحتّى حين قرّر زيارتهُ عدّة مرّات كانَ يقف على باب الاستوديُو الذي يقيم فيهِ سعِيد طارقاً البابَ دونَ أن يردّ عليه أحد .. حاول الاتّصال بهِ مراراً ولم يجبهُ سعيد .. وحين التقاهُ ذاتَ يومٍ في إحدى مواقف الحافلات هرِع إليه .. فلم يجبهِ سعيد .. كان من الواضح أنّ سعيد كانَ غاضباً للغاية من قرِيبِي وما أن بدأ قرِيبِي في معاتبة سعيد على عدم الردّ عليه .. هجم عليه الأخير محاولاً ضربه وهو يصرخ: مخلني وحدي لا تسأل عني ولا تهتم بي ما كأنه عندك صديق ! ماحد يسأل عني ولاحد يكلمني وانته بايعني !
كانَ سعيد يتصرّف بمنطق أنّ قرِيبِي ملزمٌ بالاعتناء بهِ دون أن يحاول هوَ أن يكوّن له وسطه الخاص بهِ وأصدقاءَه .. وظلّ حتى تخرجهِ يتعامل معه بهذهِ الطريقة .. حاولَ قرِيبِي إفهام سعيد أنّه كذلك مشغولٌ بمشروع تخرجه وبحياته وأصدقائهِ وأنه غير ملزمٍ بأن يمضي وقتهُ مع سعيد والذي لا يلتقيه إلا نادراً ولم تعد ثمّة مواد مشتركة تجمعهما معاً ..
.
.
عموماً ..
كانتِ الكليّة حينَ يصلُ الطلابُ لسنتِهم الدرَاسيّة الأخيرة تقومُ بترشيحِ طالبين ليقدّما مشروع تخرّجٍ يقدّمه لهم مجلس الولاية الأميركيّة التي تنتمي الجامعَة إليها وذلك لتشريف الطالب ذلك ولمنحهِ الفرصَة لعرضِ ما قدّمه في مشروعهِ بحضُور كبارِ ممثلي الولايَة وهكذا اختَار مجلسُ الكليّة سعِيد ليقومَ بمشروعِ تخرجٍ مقدمٍ من الولايَة الأميركيّة تلك ..
ولم يخيّب سعِيد ظنّهم .. فكانَ الأجدر فعلاً بذلك المشروع وبعد عامٍ تخرّج سعيد من الكليّة ليكونَ الأوّل على دفعتهِ حاصلاً على أعلَى معدّل حصدهُ طالبٌ منذ 12 عاماً في..
تخرّج سعيد الذي لم يكلّف نفسهُ بحضور حفل التخرّج فهو مضيعة للوقتِ كما يرَى لأنّه كانَ مشغولاً حينهَا بالإعداد مع نفس البروفيسور اليهودي ذلك لشهادة الماجستير .. نعَم ! لقد عرضت عليه الجامعة منحَة ً مدفوعة بالكامل إقامة ومصروفا شهرياً وإشرافاً كاملاً على نفقة الجامعة ليعدّ رسالة الماجستير بالجامعة ..
هكذا أنهَى قرِيبِي دراستهُ ليعُود إلى عُمان ملتحقاً بإحدى شركات النفط .. وليكملَ سعيد دراسَة الماجستير في تلك الجامعة وبإشرافٍ من ذلك البروفيسور اليهودي الذي رأى في سعيد عبقريّة نادرة لا يمكن أن تفوّتها الجامعة ..
وبمجرّد أن سافرَ قريبي حتّى تغيّر حال سعيد .. بدأ في متابعَة رسالة الماجستير مع ذلك البروفيسور وشيئاً فشيئاً بدأ في التغيب عن حضور مواعيده مع مشرفِ رسالتهِ الأكاديميّة .. إلى أن أنقطع فجأةً عن الحضُور إلى الجامعَة .. اختفَى عن الأنظار ولم يعد أحدٌ يراه .. حاول البروفيسور الاتصال بسعيد إلا أن هاتفهُ كان مغلقاً .. ولم يكن ثمّة أصدقاء ليسأل البروفيسُور سعِيد عنهم .. سوَى صديق عُماني أيضاً كان يعد الماجستير في نفس الجامعَة وتعرّف إلى سعيد عن طريق قرِيبِي .. اتصل البروفيسور بذلك الشاب ليخبرهُ الأخير أنهُ لا يعرفُ شيئاً عن سعيد لكنّه يعرف مقرّ إقامتهِ ..وحينَ ذهب كلاهما للاستوديو الذي يقيم به سعيد طرقا الباب دونَ أن يردّ عليهما أحد .. سألا المقيمين في تلك البنايةَ فأكد الجميع أنّ أياً منهم لم ير سعيد منذ زمنٍ بعيد ..ازدادَ قلقُ البروفيسور على سعِيد خاصّة أنه كانَ مسؤولاً عن ترشيحهِ للجامعة لمنحهِ هذه المنحَة وها هو سعيد يترك البروفيسور حائراً دون إجاباتٍ واضحة .. قرر ذلك الشاب الاتصال بقرِيبِي ليسأله إن كان يعرفُ عن سعيد شيئاً .. وأخبرهُ قرِيبِي أنه لا يعرف عن سعيد أيّ شيءٍ منذ عاد إلى عُمان .. حاولَ قرِيبِي الاتصالَ بعائلته ليسألهُ عنهم فأجابهُ شقيقُ سعيد أنّ سعيد في الولايات المتّحدة يدرس الماجستير وهذا آخر ما يعرفونهُ عنه ..
حينهَا قرّر البروفيسُور إبلاغ الشرطة الأميركيّة عن اختفاء سعيد .. وحين ذهب أفراد الشرطة إلى شقتهِ خرجَ لهم سعيد قائلاً أنه موجود بالاستوديو ولا يودّ أن يزعجهُ أحَد .. كانَ في حالةٍ مزريةٍ للغاية ، أدركَ البروفيسُور حينها أنّ سعيد يمرّ بظروفٍ نفسيةٍ صعبَة واستدعاهُ في جلسةٍ مشتركَة مع الاخصائيّة النفسيّة للكليّة .. لتخبره الاخصائيّة أنّ سعيد يمرّ بحالَة اكتئاب حادّ ونصحتهُ بأن يمنحهُ فرصَة للعودَة إلى أهلهِ ربّما يغير ذلك من وضعهِ النفسيّ.. تفهّم البروفيسور واتفقَ مع سعِيد على إمكانيةِ عودَتهِ لعُمان ولكن عليهِ التواصل بشكلٍ يومي مع البروفيسور عن طريق المحادثَة الصوتيّة عبر الانترنت لمنحهِ تقرير يومي عن اشتغالهِ على رسالتهِ .. وهكذا عاد سعِيد لعُمان ليواصل تحضير رسالة الماجستير .. وكانَ آخر تواصلٌ بينهُ وبين قرِيبِي مبشراً حيثُ أخبرهُ أنه يتواصل مع المشرفِ على رسالتهِ وأنّه بصدد الذهاب إلى الولايات المتحدة مجدداً في شهر إبريل وذلك لمزيدٍ من البحث والتحليل .. بل وكان قرِيبِي يزورهُ بين الحين والآخر في بيتِ أهلهِ حين يعُود من الصّحراء..
حدثَ كلّ ذلك ثمّ بدأت النوبات الاكتئابيّة تعاود سعِيد الذي لم يكن أيّ من أهلِ قريتهِ يراهُ سوى ذاهباً للمسجد أو عائداً منهُ إلى بيتهِ ..
ومع مرورِ الوقت انقطع سعيد كذلك عن الاتصال ببروفيسورهِ أو الرد على مكالماتِ قرِيبِي الذي حاولَ مراراً مقابلته بالذهاب إلى بيتهِ دون أن ينجح في ذلك .. كانَت آخر أخباره هو حديثه عن سفره إلى الولايات المتحدة في شهرِ إبريل ، وحين ذهب قرِيبِي لسؤال عائلتهِ إن كانَ سعيد سافر أم لا ، كان الجواب بالنفي.. سعيد لم يسافر ..
مضَى عامان الآن منذ آخر لقاءٍ بين سعيد وقرِيبِي .. لا يعرف قرِيبِي هل لا يزال سعيد مستمراً في إعداد دراسَة الماجستير أم أنه انقطع عنها .. حاول بشتّى الطرق أن يلتقيه دون أن يفلح في ذلك.. بل إن قريبي حاول مرةً بإيعازٍ من عائلةِ سعيد أن يدخل إلى غرفتهِ ليرغمه على مقابلته والجلوس معه فأقفل سعيد باب غرفتهِ رافضاً أن يرى أحداً ..
كلّ يومٍ تحمل الأمّ المسكينة الطعام إلى باب غرفةِ ابنها .. وتعود إليه بعد ساعةٍ فتجدهُ متروكاً كما هوَ .. لا أحد يعرف ما الذي حلّ بسعيد .. لم يعد يأكل ولم يعد يقابل أحداً .. تقولُ أمّه أنها تراهُ أحياناً من نافذة غرفتهِ متربعاً أمام حاسبهِ الآليّ لا يبتعدُ عنه ..
.
.
لماذا أقصّ اليوم قصّته عليكم؟!
سعِيد كنزٌ ثمينٌ من كنُوز الوطن .. يشعرُ كلّ انسانٍ بالحسرَة على طاقتهِ المهدرَة .. من الواضح أنّ سعيد مصابٌ بمرضٍ نفسيٍ لم يتأزّم سوَى لعدم وعيِ أسرتهِ والمحيطينَ بهِ بتداركهِ قبل فواتِ الأوان .. سعيد قادمٌ من بيئةٍ فقيرةٍ من قرى المنطقة الداخليّة .. لا تمتلك عائلته السلطة أو المال لإجباره على الخضُوع لعلاجٍ نفسيٍ مكثّف ، رغمَ شكّي في قدرات "مستشفياتنا المحليّة أبقاها الله" في أمور العلاجِ النفسيّ هذا ..
شخصيّة سعيد أكاديميّة وبحثيّة من الدرجة الأولى .. لو أنّ لدينا مؤسساتٍ تعنَى بحالاتٍ مثله .. من الواضح أن مهارات وقدرات سعيد الاجتماعيّة ضئيلة للغاية ، لكنّ مثل هذه الأمور تحلّ وذلك عن طريق شغلِ سعيدٍ بإنجاز أبحاث أكاديميّة يركّز فيها مهاراته وذكاءَه لأنّ هذا هو ملعبه الحقيقيّ ..
يحزننيْ الوضعُ الذي آل إليهِ سعيد .. ويحزنني كذلك أني لا أملك السلطة لمساعدتهِ رغم أني دفعتُ قريبي عدّة مراتٍ لمحاولةِ إخراجهِ من تلك العزلة التي فرضها على نفسهِ دون جدوَى ..
لعلّ هنالك حالاتٍ كثيرَة مثل سعيد في وطننا لكنّ أوطاننا لا تزال تفتقر الوعي لإنشاء مؤسساتٍ تعنَى بالعنَاية بالشباب "منخفض الذكاء الاجتماعيّ ، مرتفع الذكاء العلميّ" وهم كثيرون ..
أعانَ الله سعيد .. وأعانَ أمّه ووالدَهُ الضرير ..


تعليقات

  1. أنا شخصيا أعرف حالة شبيهة جدا بحالة سعيد، بل إنه يشاركه الاسم أيضا، وهو متميز جدا في المواد العلمية، درس في جامعة السلطان قابوس في كلية الهندسة، حجز في السنة الأولى مكانه في لوحة الشرف، إلا أن حالته النفسية تأزمت بعد ذلك، فانخفض مستواه الدراسي،
    عموما تخرج والتحق بالعمل في إحدى الشركات في مجال تخصصه.
    بعد ست سنوات من الوظيفة، استقال ولزم غرفة في منزل أهله، ولم يعد يحتك بأحد،
    أخوته كلهم متعلمون، وخريجو جامعات، بذلوا معه جهودا كبيرة لإقناعه بضرورة خضوعه للعلاج النفسي، إلا أنه قطع عليهم الطريق، ورفض كل محاولاتهم جملة وتفصيلا...
    كل تصرفاته ومظاهره تدل دلالة قاطعة أنه يعاني من اكتئاب نفسي، ولربما تحول بمرور الوقت إلى ذهان، أي مرض عقلي،
    لا أدري لم هو مصر على أنه بخير، ويرفض الإقرار بمرضه، أحيانا أتساءل:
    لماذا نحن واثقون أنه هو المريض، ونحن المعافون؟
    لم لا يكون العكس؟
    قد يكون سعيدٌ سعيدا في وضعه الجديد، ولذلك هو راضٍ به وخالد إليه،
    لعله اكتشف فلسفة أعمق مما نحمل جميعا فاعتنقها عن طيب خاطر، وعاش على هداها أيامه الماضية واللاحقة.
    لنعد إلى قصة سعيد الأول (سعيد المقال). أنا شخصيا لا ألوم عائلته ولا المحيطين به، فأمثال سعيد لا يمكن إقناعهم بمشكلاتهم النفسية، ولو كان هذا متأتيا لأقنعه به مشرفه الأكاديمي البروفيسور، ولأقنعته الأخصائية النفسية التي جلست إليه.
    هناك احتمالان: إما أن المشكلة في سعيد نفسه وهو الوحيد الذي يتحمل مسؤوليتها، وهذا هو الاحتمال الأقوى، وإما أنه لا مشكلة أصلا، وسعيد يرغب في عيش حياته على هذا النحو.

    ردحذف
  2. Thank you Aysha. it's a sad story, shows how much investment we need in the formation of human capital, not just spending on infurstuctions( airports, ports and highways) and luxury hotels. But, who will listen??. The individuals who have the power only care about how much they will get out from every project. Investment in human capital requires long-run vesion, in order to get benefits from it. This approach is inconsistent with our financial-planners' objectives. What we should do? we should be optimistics , work hard to prove our skills and talents, organize our effort(lobbying) for more fund for education with quality, research and development. Also, we should ask for more trasnparancy in the government adminstration procedures.. .

    ردحذف
  3. If we have what so called the out-reach teams that go out of their institutions and and handle people's problems in their communities we might have a solution to Said's problem.Having severe psychiatric disorder, a person may lose insight leaving him/her unaware that he/she has a problem needing a treatment. In such a situation I'd suggest that Said should be taken against his well to Ibn Sina or psychiatry OPD at Sultan Qaboos University Hospital to have an aapropriate diagnosis and management. Who can take him against his well? This is the question and it is difficult to be answered. But even his friend can do that with the help of some other people like Said's brother. Remember, at the end this fore Said's sake.

    ردحذف
  4. بالفعل قصة حزينة، لقد عايشت شخصا مماثلا في جامعة السلطان في التسعينات مر أيضاً بظروف نفسية مما أثرت علي دراسته وبعد ان كان في كلية الطب تم تحويله لكلية العلوم وبعدها للزراعة وكان كثيرا ما كان يتوجس في الناس بدون سبب، وقد حاول في احدي المرات ضربي شخصيا بدون حتي سابق معرفة معه ولكن استطعت صده، وبعد إبلاغي مسؤول السكن اخبرني انه مريض نفسيا ويتلقي العلاج ونصحني بتفاديه، وقد ابلغني بعض معارفه انه كان متفوقا في دراسته، ولكن للاسف لم يجد العلاج النفسي المناسب له بل يكتفي بالأدوية المهدية .. اعتقد ان وجود مختصين في مجال العلاج النفسي اصبح ضرورة خاصة بالنسبة للطلبة والموظفين ووضع برامج تأهيل نفسية متخصصة تتناسب مع ثقافة المجتمع العماني. خالص التحية لك اختي عائشة
    سيف الجهوري
    Jah13378@gmail.com 

    ردحذف
  5. إهدار الطاقات البشرية أكثر ما يؤرقني فعلا

    شافاه الله

    ردحذف
  6. Such a very sad story. Thanks sister.

    i really fell very sad to his mother who sees him like this but she can't do anything about it. am sure it is killing her

    yes, i agree it seems that a lot if cases are like Said in Oman, and unfortunately . no one is doing anything about them.
    i know also some one , who really ended his life by committing a suicide !!

    Why for example, don’t they let a scholar or Shaik talk to him. Why not the grand mufti for example. Or Dr. Abdullateef at SQUH , he deals with such cases, and he is a very nice person.

    ردحذف
  7. ليتني التقيه يوما...واعرف وضعه...
    شخص لا مثيل له...

    ردحذف
  8. سمعت عن قصص مماثلة حدثت لشباب عماتيين كانوا يعدون من العباقرة وأصبحوا في مثل حالة سعيد.
    والسبب على ما أجزم وفي اعتقادي انه صحيح وهو أن هذه الدول عندما تكتشف هذا النبوغ تدعوهم للافامة فيها وخدمتها وتفتح لهم أيواب الثراء ولكنهم عندما يرفضون يكون هذا مصيرهم من خلال وسائل هم أدرى بها.... وسيكشف التاريخ صدق ما هذا الكلام.
    والله المستعان.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

إذا تريدوا ملابس العيد، روحوا رقطوا (1)

5 قيم تعلمتُها من أميّ: غزالة بنت ناصر الكندية   عائشة السيفي صبيحَة يوم الأحد غسلتُ أمي وكفنتها مع أخواتي. جهزتُ لها لبسةً من حرير فأبلغتني المكفنةُ أن علي أن آتي بلبسة من قطن تخلو من الزركشة. اخترتُ لها أجمل ملابسها وبخرتُها كما كنت أبخر ملابسها لعشرات السنوات كل عيد. أذنتُ في أذنيها، وتأملت أصابعها المنفرجة وأنا أضع بينها الصندل. كانت كقطعة الحرير ببشرتها الصافية وكنت أحدثها: ما أجملك حيةً وما أجملك ميتة. كان مشهداً عظيماً لا أعرف كيف ألهمني الله لأعيشه. أعرفُ أنني كنت شاخصة العينين ولا أذكر أنني بكيت كثيرا.. كانت دموعي تنهمر بصمت إلى أن حملوها في الطارقة وتواروا عن الأنظار. لا أذكر كثيرا مما حدث بعدها فقد سقطتُ طريحة الفراش ليومين. ماتت أمي غزالة بنت ناصر الكندية بعد رحلة ثماني سنواتٍ ويزيد مع مرضٍ لعين اسمهُ ملتي سيستم أتروفي. ومنذ جرى تشخيصها، جُبنا بها أطباء العالم لعلنا نجدُ لها علاجاً فكانت النتيجة واحدة: إنه مرض نهايته الموت، الفارق فقط هو حتى متى سيعيش صاحبه. لسنواتٍ عاشت أمي وعشنا معها معاناةٍ مريرة لا يعلمها إلا الله ونحنُ نتأمل بعجزٍ شديد كيف كانت تنتقل من وهنٍ

عن كُورونا، وفقر اللقاح، والشّعب العُمانيّ القنوع: أسئلة غير قنُوعة إطلاقاً

  تحذير: إن كنت لا تحب لغة الأرقام فلا تقرأ هذا المقال   في نُوفمبر 2020، سألتُ مارجي فان جوخ، رئيسَة وحدة المواصلات واللوجيستيات في المنتدى الاقتصادي في دافوس عن استقرائها لشكلِ السباق العَالمي نحوَ اللقاح فأجابتني بأنّ حربَ اللقاحات قد بدأتْ بالفعل وأنّ كل دولة ستكونُ معنية بشعبها فحسب، وأنّ ثلاث عوَامل ستحددُ أسبقية الدول في الحصول على اللقاح، أولاً: ذكاء السياسيين في كلّ دولة وحنكتهم الدبلوماسية ستوضع تحتَ الامتحان الحقيقي لاختبار مِرَاسهم في التفاوض على أكبر عدد من الجرعات مستغلةً علاقاتها الدولية وشبكة معارفها للحصول على أكبر كمية بأسرع وقت ممكن، ثانياً: قدرة فرقهِم الاستراتيجيّة على استقراء مستقبل إنتاج اللقاح وأيٍ من شركات إنتاج اللقاح ستنتجُ أولاً وبفعالية تحصين أكبر وثالثاً: قدرتها المالية التي ستحدد مقدرتها على المخاطرة بشراء لقاحات لم تعتمد بعد بناءً على استقرائها للمستقبل، (إنّها مقامرَة عليهم اتخاذها وإلا فالنتائج وخيمة). معربةً عن قلقها من أنّ المرحلة القادمة ستفتقد المساواة في توزيع اللقاح. (عائشة، إنهم يجوبون العالم -بينمَا نتحدّثُ- بملايين من الكاش لحجز اللق

اسميْ عائشَة . . وهذهِ حكايتيْ ! (1)

ملاحظَة للقارئ قبلَ الشّروعِ في القرَاءَة: عائشَة حياتهَا. . صفحة بيضَاء جداً ! أشاركُ قليلاً من بيَاضها إيَّاك وأودعُ الباقيْ لهَا ولمن تحبّ .. إذا كنتَ تحملُ مسبقاً أيةَّ "مخلّفات داخليَّة سوداء" فالرجَاء عدم القرَاءة حولَ عائشَة: عائشَة .. قد تكُون أنا أو قد تكُونُ أنتَ .. وليس بالضرُورَة أن تكُونَ من تقرأ لها الآنَ في هذهِ المدوّنة قد يتضمّنُ أدناهُ حكَاياتِي أنا .. وقد يكُون خليطاً من حكاياتِ صديقاتٍ أخريَات .. أجمعها في حياةٍ واحدَة حافلة تستحقُ أن يمتلكَ صاحبها حلماً جميلاً عائشَة التيْ أحكي عنها هنَا.. كائنٌ يحلمُ بحياةٍ جميلة رغمَ يقينها أنّ الحياة لن تكونَ ذلك بالضرُورة .. وهي فتاة ٌ بسيطَة جداً .. يحكيْ بعضهُم .. أنّها لا تزالُ طفلة ً ترفضُ أن تكبر .. ويقولونَ أنّها تحوَّلتْ إلى زوجةٍ عاديةٍ غارقةٍ في تفاصيلِ حياتهَا اليوميَّة بعد زواجها .. يقولُ بعضهمْ أن عائشَة لم تعُد تهتمّ كثيراً بمن حولهَا .. وأنّها تحوَّلتْ -كآلافِ البشر حولنا- إلى كائنٍ غير معنيّ بالضرورة بجدالاتنا الثقافيَّة اليوميَّة المملة .. التيْ قد أثيرها أنا أو أنتَ أو عبيد أو جوخة أو علياء من المثقفي