التخطي إلى المحتوى الرئيسي

لأنّنـا نقدّس الجثث ..

في السّاعة السّادسة مساءً في الثّامن من يونيُو 1992م .. كان الدّكتور فرج فودة خارجاً من مكتبهِ رفقَة ولدهِ أحمد وأحد أصدقائه ، وفجأة ظهرَ مسلحان أطلقا على فودَة النّار من مسدّس آلي فلفظ أنفاسهُ على الفَور ..
ولمن لا يعرفُ فرج فودَة فهو مفكّر مصريّ دعا طوَال فترَة نشاطهِ السياسيّ إلى فصل الدّين عن الدّولة وكانَ من أهمّ معادي حركَة الاخوان المسلمين ولأجلِ ذلك استقالَ فرج فودَة من حزبِ الوفد الجديد احتجاجاً على تحالفِ الحزبِ مع الاخوَان المسلمين في الانتخابات وأسّس حزباً جديداً أسماهُ حزب المستقبل ..
آرَاء فرج فودَة كانتْ مثيرةً للجدل وكانَ لهُ كارهوه الذينَ ربّما كانوا أكثرَ من مؤيدّيه .. فرج فودَة لم يعرفهُ خارجَ نطاقِ مصرَ أحد إلا حينمَا قتل وتركت محاكمة قاتلهِ الشّهيرة صدمَة لدى جميعِ من تابعها خاصّة بعدَ أن تمّ استضافة علماء دين بارزين كمحمّد الغزالي الذي حينَ سألهُ القاضي إن كانَ من الجائز قتل فرج فودَة فأجابَ .. نعم يجوزُ قتلهُ ، وإن كانَ قاتلهُ قد تعدّى على السلطة لكنّ هذا لا عقُوبة له ..
ردّ محمّد الغزالي أثار ردودَ فعلٍ صادمة خاصّة من شخصيّة اسلاميّة كهذهِ ما حدا بوزير العدلِ المصريّ وقتها إلى الذهابِ بنفسهِ إلى بيتِ محمّد الغزاليّ ليعدل عن رأيهِ ، غير أنّ محمد الغزالي ردّ بلهجةٍ مصريّة قحّة .. ( هوّ أنا اللي جيت ماشي برجليّ ع المحكمة؟ مش انتو اللي طلبتوني ؟ أهو أنا جاوبت بصرَاحة ع اللي سألني عليه سيادة القاضي ) ..
عموماً .. ليست هذه نقطَة الموضوع .. النقطة الفصل هوَ أنّ مؤلفّات فرج فودَة وجدَت رواجاً عظيمَة بعد حادثَة قتلهِ ، وتعاطفَ معهُ كثيرُون ممن كانُوا بالأمسِ ضدّ أفكارهِ ولعلّ مشهداً راسخاً في ذاكرَة كلّ المصريين علقت أثناء محاكمَة قاتلهِ حينَ سأل القاضي القاتلَ:
لماذا قتلتَ فرج فودَة؟
فأجاب القَاتل : لأنه مرتدّ
فسألهُ القاضي: ما الكتب التي قرأتها لفرج فودَة لتحكمَ عليهِ أنهُ مرتدّ
فأجابَ القاتل: لم أقرأ أيّ كتابٍ لهُ ..
فأجابَه القاضي مستفسراً: كيف؟
فردّ القاتل : أنا لا أقرأ ولا أكتب ..


يحيي المصريُون كلّ عامٍ في 8 يونيُو حادثَة مقتل فرج فودَة ويقيمُون الندوات لقرَاءة كتبهِ ، بل إنّ 8 أحزَاب مصريّة اجتمعت قبل شهرٍ حيثُ أحيَوا تاريخ وفاتهِ تحتَ سقفٍ واحدٍ ليدليْ كلّ حزبٍ بدلوهِ في فكرِ فرج فودَة ..

الآن .. لماذا أتحدّث عن فرج فودَة ؟

لقد تذكّرتُ حادثَة فرج فودَة .. حينَ تساءلت صديقَتي ونحنُ نتناول الغدَاء ونناقشُ الأزمَة المصريّة وقبلها التونسيّة عن جدوَى أن يقتلَ الانسانُ نفسهُ وأن يموتَ المئاتُ في محاولةٍ لتذكِير الأمّة أنّ هنالك خللاً ينبغيْ إصلاحه في محاولةٍ لاستنهاض نخوتهَا؟ ..

أجبتها حينهَا بجملَة قصيرَة جداً استخلصتها من الشّاعرة المغربيّة الراحلة مليكة مستظرف حينَ قالت "متنبئةً موتها" : هيَ أننا أمّة تقدّس الجثث ..

لأننا يا أعزّائي أمّة تقدّس الجثث .. فكانَ على أن ننتظر جثثنا لستنتهض فيهَا روح الأمّة .. أليسَ هذا مثيراً للسخريَة؟

تعليقات

  1. عائشة ابحثي عن السحر عن الحب عن الجمال عن لغتك اني افتقدك بقدر ما تشئاين

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

إذا تريدوا ملابس العيد، روحوا رقطوا (1)

5 قيم تعلمتُها من أميّ: غزالة بنت ناصر الكندية   عائشة السيفي صبيحَة يوم الأحد غسلتُ أمي وكفنتها مع أخواتي. جهزتُ لها لبسةً من حرير فأبلغتني المكفنةُ أن علي أن آتي بلبسة من قطن تخلو من الزركشة. اخترتُ لها أجمل ملابسها وبخرتُها كما كنت أبخر ملابسها لعشرات السنوات كل عيد. أذنتُ في أذنيها، وتأملت أصابعها المنفرجة وأنا أضع بينها الصندل. كانت كقطعة الحرير ببشرتها الصافية وكنت أحدثها: ما أجملك حيةً وما أجملك ميتة. كان مشهداً عظيماً لا أعرف كيف ألهمني الله لأعيشه. أعرفُ أنني كنت شاخصة العينين ولا أذكر أنني بكيت كثيرا.. كانت دموعي تنهمر بصمت إلى أن حملوها في الطارقة وتواروا عن الأنظار. لا أذكر كثيرا مما حدث بعدها فقد سقطتُ طريحة الفراش ليومين. ماتت أمي غزالة بنت ناصر الكندية بعد رحلة ثماني سنواتٍ ويزيد مع مرضٍ لعين اسمهُ ملتي سيستم أتروفي. ومنذ جرى تشخيصها، جُبنا بها أطباء العالم لعلنا نجدُ لها علاجاً فكانت النتيجة واحدة: إنه مرض نهايته الموت، الفارق فقط هو حتى متى سيعيش صاحبه. لسنواتٍ عاشت أمي وعشنا معها معاناةٍ مريرة لا يعلمها إلا الله ونحنُ نتأمل بعجزٍ شديد كيف كانت تنتقل من وهنٍ

اسميْ عائشَة . . وهذهِ حكايتيْ ! (1)

ملاحظَة للقارئ قبلَ الشّروعِ في القرَاءَة: عائشَة حياتهَا. . صفحة بيضَاء جداً ! أشاركُ قليلاً من بيَاضها إيَّاك وأودعُ الباقيْ لهَا ولمن تحبّ .. إذا كنتَ تحملُ مسبقاً أيةَّ "مخلّفات داخليَّة سوداء" فالرجَاء عدم القرَاءة حولَ عائشَة: عائشَة .. قد تكُون أنا أو قد تكُونُ أنتَ .. وليس بالضرُورَة أن تكُونَ من تقرأ لها الآنَ في هذهِ المدوّنة قد يتضمّنُ أدناهُ حكَاياتِي أنا .. وقد يكُون خليطاً من حكاياتِ صديقاتٍ أخريَات .. أجمعها في حياةٍ واحدَة حافلة تستحقُ أن يمتلكَ صاحبها حلماً جميلاً عائشَة التيْ أحكي عنها هنَا.. كائنٌ يحلمُ بحياةٍ جميلة رغمَ يقينها أنّ الحياة لن تكونَ ذلك بالضرُورة .. وهي فتاة ٌ بسيطَة جداً .. يحكيْ بعضهُم .. أنّها لا تزالُ طفلة ً ترفضُ أن تكبر .. ويقولونَ أنّها تحوَّلتْ إلى زوجةٍ عاديةٍ غارقةٍ في تفاصيلِ حياتهَا اليوميَّة بعد زواجها .. يقولُ بعضهمْ أن عائشَة لم تعُد تهتمّ كثيراً بمن حولهَا .. وأنّها تحوَّلتْ -كآلافِ البشر حولنا- إلى كائنٍ غير معنيّ بالضرورة بجدالاتنا الثقافيَّة اليوميَّة المملة .. التيْ قد أثيرها أنا أو أنتَ أو عبيد أو جوخة أو علياء من المثقفي

عن كُورونا، وفقر اللقاح، والشّعب العُمانيّ القنوع: أسئلة غير قنُوعة إطلاقاً

  تحذير: إن كنت لا تحب لغة الأرقام فلا تقرأ هذا المقال   في نُوفمبر 2020، سألتُ مارجي فان جوخ، رئيسَة وحدة المواصلات واللوجيستيات في المنتدى الاقتصادي في دافوس عن استقرائها لشكلِ السباق العَالمي نحوَ اللقاح فأجابتني بأنّ حربَ اللقاحات قد بدأتْ بالفعل وأنّ كل دولة ستكونُ معنية بشعبها فحسب، وأنّ ثلاث عوَامل ستحددُ أسبقية الدول في الحصول على اللقاح، أولاً: ذكاء السياسيين في كلّ دولة وحنكتهم الدبلوماسية ستوضع تحتَ الامتحان الحقيقي لاختبار مِرَاسهم في التفاوض على أكبر عدد من الجرعات مستغلةً علاقاتها الدولية وشبكة معارفها للحصول على أكبر كمية بأسرع وقت ممكن، ثانياً: قدرة فرقهِم الاستراتيجيّة على استقراء مستقبل إنتاج اللقاح وأيٍ من شركات إنتاج اللقاح ستنتجُ أولاً وبفعالية تحصين أكبر وثالثاً: قدرتها المالية التي ستحدد مقدرتها على المخاطرة بشراء لقاحات لم تعتمد بعد بناءً على استقرائها للمستقبل، (إنّها مقامرَة عليهم اتخاذها وإلا فالنتائج وخيمة). معربةً عن قلقها من أنّ المرحلة القادمة ستفتقد المساواة في توزيع اللقاح. (عائشة، إنهم يجوبون العالم -بينمَا نتحدّثُ- بملايين من الكاش لحجز اللق