التخطي إلى المحتوى الرئيسي

حتّى لا يأكلُوا "بقرَة" الحكُومة!





عائشَة السيفيّ
ayshaalsaifi.blogspot.com


حكيَ أنّ رجلاً نوَى أن يذهبَ إلى الحجّ ، وكانَ قد اشترَى بقرَة لأهلهِ فذهبَ إلى صاحبٍ له فقال له .. أئتمنكَ بقرتيْ حتّى إذا جاءَ عيد الأضاحي ، احملها إلى أهلي ليضحُوا بها. لكنّ الرجل حينَ عاد إلى أهله حاجاً وجدَ أنّ صاحبهُ امتنع عن أهلهِ فذهبَ إليهِ فعلمَ أن الرجلَ ذبحَ البقرَة وأطعمها أهلهُ، فذهب الرجلُ يشتكي إلى القاضي أبي يُوسف ، وقد كانَ أبا يوسف أعلم أهل زمَانهِ في القضاء، وبالرغمِ أنّه كان من البديهة أن يحكمَ أبا يُوسف بعقاب الصاحبِ الذي أكل البقرَة فإنّه ذهب فاستقصى حال الرجل فوجدهُ وعياله لا يملكُون ولو رغيف خبز يسدّ جوعهم .. فقالَ القاضي للرجلِ المشتكي: لا تأمن طعامكَ على جائع ولا مالك على مُعدَم .. فأمرَ بتعويضِ الرجلِ من بيتِ المال وبنفقةٍ جاريةٍ على عيال الرجلِ الذي ذبح البقرَة .. انتَهت القصَة.

ليسَ من المدهشِ .. أنّ تتصدّر مشاريعُ الطرقِ والموانئ والبنية التحتيّة ، النصيبَ الأعلى من الميزانيّة وتقتطعَ النسبَة الأكبر من المشاريع الوطنيّة فهذا هوَ مطلبنا وهو أمرٌ لا يختلفُ عليهِ عاقلان ، لكنّ من المدهشِ حقاً أن تدَار هذهِ المشاريع "المليونيّة" .. من قبلِ مهندسينَ لا تتجاوز رواتبهُم بضع مئات من الريالات .. مهندسُون اختارُوا دراسَة الهندسَة باعتبارها من أعلى التخصصات منزلة و"منطقياً" أعلاها دخلاً إلا أنّ المهندس بعد أن ينهي سنوات دراستهِ التي لا تقلُ عن خمسِ أعوام ، ينتهي بهِ الحال في الخدمة المدنيّة براتب 563 ريال!

وعلى عكسِ القاعدَة التيْ تصنّف ثلاث تخصّصات باعتبارها المثلثَ الذهبي في الشعوب الأكثر تحضراً الأطباء المهندسُون والمحامون، فإنّ المهندسين في عُمان لا يمتلكُون أدنى فرق في المعاملة بين مثلائهم في أي تخصص. لا فرقَ على الإطلاق بينهم وبين غيرهم سوَى لقب "باشمهندس" الذي وقع بينَ سندَان تعزيَة النفس ومطرقة السخريَة!

مهندسُون يديرُون ملايين البلد وملياراتهم.. ورواتبهم تقلّ عن راتب المضمّد في الدرجة الرابعة في وزارة الصحّة .. وإنْ كانتِ الرقابة على مشاريع الدولَة مؤخراً أكثر صرَامة من ذي قبل ، والوعي بحسّ النزَاهَة موجُود لدَى المهندسين الشباب فإننا لا يجبُ أن نعوّل على ذلك كثيراً لأنّ هذا لن يطُول!

إنني على ثقة باستحقاق المضمدين والممرضينَ رواتبهم المعدلَة ولكنّ من العجيب أن يستلمَ الممرضُ مثلاً في الدرجَة "الرابعَة" قرابَة 2000ريال ويستلمَ المهندس في نفس الدرجَة 800 ريال! أي أن راتب المهندس يساوي 40% راتب نظيره الممرض .. طيّب ارفعُوه لـ 50%!!!!

صدقاً أكره المقارَنات وأعرفُ أنّ الانسان بطبيعتهِ الانسانيّة متطلّب وأنّ كلّ تخصص يعتقدُ بأفضليّته على غيرهِ أو كما قالَ الدكتُور مصطفى السباعي لو أعطِيَ كُل إنسَان مَا تمنّى لأكلَ بَعضُنا بعضاً، لكنّ عدم وجود أيّ علاوات للمهندس في الخدمَة المدنيّة هوَ أمرٌ مثيرٌ للحنق فعلاً .. لا علاوَة مهندس ، علاوة خطر ، لا علاوَة معاينَة مواقِع .. هذا لا يوجَد في أيّ دولَة تتحلّى بقليل من الحضاريّة!

أعتقدُ أنّه آن الأوان للمهندسين أن يقفُوا بصرَامة لتعديل درجاتهم الوظيفيّة ، وإلا فإنّ المؤسسات الحكوميّة ستواجهُ المزيدَ من العزُوف والمزيد من الاستقالات .. أصبحَ المهندس اليَوم يبدأ وظيفتهُ وفي رأسهِ فكرَة المغادرَة لأقرب "هيئة" أو "شركَة حكوميّة" بل ونجدُ أيّ مهندس حكوميّ يمتلك القليل من الكفاءة يلاحقُ الشركَات التي تتعامل معها وزارته من أجلِ تقديم عرضِ عملٍ له.

وأصبحَ مدراء العمُوم عاجزينَ عن إغراء مهندسيهم بالبقاء لعدم وجُود أيّ نظام مكافآت خاص بالمهندسين سوَى بالتحايل على صرفِ بعضِ "النثريّات" على المهندسين لرفعِ معنويّاتهم ودفعهم للعمل!

انخفاض رواتبِ المهندسين كانت نتيجته واضحَة جداً في تدنِي مستوَى كفاءاتهم في الحكُومة وانتشار روح الاحبَاط بينهُم بلْ ويشتكي كثيرُون من عنصريّة بعض الشركات في التعامل معهم فحتّى حينَ يجتازون المقابلات لوظائفَ خاصّة ترفضهُم الشركات حينَ تعلم أنّه منخرطُون في وظيفة حكوميّة لانتشار النظرَة العامّة بأنّ المهندِس الحكوميّ غير منتِج!

وقد ساهمَ في ذلكَ نقص الدورَات التدريبيّة والتأهيل الهندسي له إذ يتحوّل المهندس بعدَ انخراطه في عمله الحكوميّ إلى كاتب "رسائل" .. يحررُ الرسائل للمقاولين والاستشاريين ولا يُمارس أيّ دَور فنيّ في المشروع بل إنّ بعضَ المهندسين فقدُوا مستوَاهم الفنيّ للحد الذي يعجزهم فيها فهم خريطة يقدّمها لهم المقاول أو الاستشاري .. أذكرُ في ذلكَ موقفاً مؤلماً تحدّى فيه أمامي أحد الاستشاريين ، مهندساً حكومياً يديرَ مشروعه بأن يصمّم لهُ عموداً .. فعجزَ المهندس عن ذلك ..

الوزاراتُ لا تحتاجُ لتعديل رواتب مهندسيهَا  فحسب بل تحتاجُ إلى وضع ميزانيّات ضخمَة لتدريبهم حالهُم بذلك حال الكوادر الطبيّة ، ابتعاثهم للخارج لإكمال دراساتهِم العليا وتنظيم برامج تدريبيّة عالية الجودَة لهم وإجبَار الشركَات الاستشاريّة والمقاولين على ضمّ مهندسي الوزارة المشرفة على المشروع ضمنَ فريق عملهم ليكتسبُوا منهم الخبرَة والأداء.

هذا الوَاقع لا يرفعُ اللومَ عن المهندسين العمانيين في الوظائف الحكوميّة، فما الذي يجعلُ المهندسَ فور تخرجهِ يلتحقُ بالخدمَة المدنيّة؟ هذه النظرَة القاصرَة التي تدفعُ ثمنَها الحكُومة. الحكُومة التيْ بعدَ 43 عاماً من عمرها لا يزَالُ يمسكُ أكبرَ مشاريعهَا الاستراتيجيّة المقاولُون والاستشاريُون الأجانب بينما نعدَم العُمانيين. بل إنني اعتدتُ –كونيْ أعملُ في شركَة استشارات هندسيّة- على نظرات الاستغرَاب والأسئلة المتعجبَة من وجُود مهندسَة عمانيّة في مكتب استشاري. وكمْ أبدَى زملائي دهشتهم حينَ يقتربُ منّي موظف حكومي ألتقيهِ في اجتماعِ عملٍ فيسألني: لماذا تعملين في القطاع الخاص؟ ما الذي منعكِ من الالتحاق بالحكُومة!
ألُوم الحكومَة التيْ ساهمَ تجاهلها للمهندسينَ وإهمَالها لتدريبهم وتأهيلهم وألوم المهندسَ الذي يحجمُ عن القطاع الخاصّ ويتركهُ للأجانب يديرُون دفّته ويتسيّدونَ مشاريعهُ ويلتحقُ بكاملِ إرادتهِ بالحكُومة وهوَ يعلم أنّ عليهِ أن يمضي 20 عاماً ليصلَ راتبه راتب ممرّض في الدرجة الرابعَة!

على الحكُومَة أنْ تجلسَ مع مهندسيهَا وتستمعَ لهم، عليهَا أن تفعلَ ذلكَ لتحمي مشاريعهَا وتصنعَ جيلاً من المهندسين قادراً على كشفِ الثغرَات التيْ تختبئُ وراءها الشركَة المنفذَة. عليهَا أن تعيدَ الاحترَام والهيبة للمهندسِ الحكُومي الذي أصبحَ الاستشاريُون والمقاولونَ يتندَرونُ على قلّة كفاءتهِ وكسلهِ. عليهَا أن تفعلَ ذلك وتتعلمَ من الحكمَة بألا تأمنَ الراعي الجَائع على القطيع ولا المشاريعَ على "مُهندسٍ" جائعٍ!

تعليقات

  1. واقع مؤلم..



    هل معك حساب بتويتر؟

    ردحذف
  2. فعلا واقع مؤلم ... ياخسارة !!!!!

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هلْ أنفقَ "قابُوس بن سعِيد" 64 مليُون دولار على منظمَاتٍ بريطانيّة؟

"قابُوس بن سعِيد يكرّم هيئة حقوق الانسان البريطاني 21 مليون دولار ومساعدَة للمنظمة المالية البريطانية 43 مليون دولار" هكذا وصلتنيْ رسالة تناقلهَا الناسُ مؤخراً عبر أجهزة البلاك بيري وبرنامج الوتسأب ومواقع التواصل الاجتماعي .. تناقلَ الناسُ الخبر "المُصَاغ بركاكة لغويّة" بحالة من الغليان حول تبرع السلطان قابوس لمنظمات بريطانية بـ64 مليون دولار. وصلتنيْ الرسالة من أشخاصٍ مختلفين ولم يستطع أيٌ منهم أن يجيبني على سؤالي حولَ مصدر الخبر .. كان جميعهم يتناقل الخبر دون أن يكلّف نفسه بالعودة إلى المصدر .. بحثتُ عبر الانترنت عن أيّ موقع أو تقرير يتحدث عن الهبةِ السلطانيّة "السخيّة" ولم أستطع الوصول إلى أيّ موقع إخباري أو رسميّ يتحدث عن التبرع. وحينَ حاولتُ البحث عن المؤسستين البريطانيتين المذكورتين أعلاهُ لم أجد لهما ذكراً على أخبار الانترنت إطلاقاً سوى مواضيع طرحها أعضاء منتديات وضعوا الخبر هذا في منتدياتهم وأشاروا إلى المؤسستين بهذا الاسم. حينهَا قرّرتُ أن أصلَ بنفسي إلى مصادر تؤكدُ لي –على الأقل- صحّة المعلومة من عدمها. حاولتُ البحثَ باللغتين عن مواقع ل...

إذا تريدوا ملابس العيد، روحوا رقطوا (1)

5 قيم تعلمتُها من أميّ: غزالة بنت ناصر الكندية   عائشة السيفي صبيحَة يوم الأحد غسلتُ أمي وكفنتها مع أخواتي. جهزتُ لها لبسةً من حرير فأبلغتني المكفنةُ أن علي أن آتي بلبسة من قطن تخلو من الزركشة. اخترتُ لها أجمل ملابسها وبخرتُها كما كنت أبخر ملابسها لعشرات السنوات كل عيد. أذنتُ في أذنيها، وتأملت أصابعها المنفرجة وأنا أضع بينها الصندل. كانت كقطعة الحرير ببشرتها الصافية وكنت أحدثها: ما أجملك حيةً وما أجملك ميتة. كان مشهداً عظيماً لا أعرف كيف ألهمني الله لأعيشه. أعرفُ أنني كنت شاخصة العينين ولا أذكر أنني بكيت كثيرا.. كانت دموعي تنهمر بصمت إلى أن حملوها في الطارقة وتواروا عن الأنظار. لا أذكر كثيرا مما حدث بعدها فقد سقطتُ طريحة الفراش ليومين. ماتت أمي غزالة بنت ناصر الكندية بعد رحلة ثماني سنواتٍ ويزيد مع مرضٍ لعين اسمهُ ملتي سيستم أتروفي. ومنذ جرى تشخيصها، جُبنا بها أطباء العالم لعلنا نجدُ لها علاجاً فكانت النتيجة واحدة: إنه مرض نهايته الموت، الفارق فقط هو حتى متى سيعيش صاحبه. لسنواتٍ عاشت أمي وعشنا معها معاناةٍ مريرة لا يعلمها إلا الله ونحنُ نتأمل بعجزٍ شديد كيف كانت تنتقل من و...

السيّد نائب رَئيسِ مجلسِ الوزراء ... الخُبز أم الكَعك؟

السيّد نائبُ رئيس الوزراء ... الخُبز أم الكعك؟ نسخَة من الرّسالة إلى وزيرَي التجارَة والصنّاعة والمَكتبِ السّلطاني. صاحب السموّ السيّد فهد بن محمُود نائبَ رئيسِ الوزراء.. تحيّة طيبة وبعد: دعني قبلَ أن أبدَأ رسالتيْ أن أحكي لكَ قصّة ماري انطوانيت .. آخر ملوك فرنسَا .. ففيمَا كانت الثورَة الفرنسية تشتعلُ والجماهيرُ الفرنسيّة الغاضبَة تحيط بقصر فرسَاي لتخترقه كانَت الجماهيرُ تصرخُ: نريدُ الخبز ، نريدُ الخبز! شاهدَت ماري انطوَانيت الجماهير يصرخُون من شرفَة قصرهَا وسألتْ كبيرَ خدمها: لماذا يريدُ الناسُ خبزاً؟ فأجابها: لأنهم لا يستطيعُون شراءه أيها الملكة! فردّت عليه بقمّة اللامبالاة والجهل: "إذا لم يجدوا خبزاً لماذا لا يشترونَ الكعك"! .. لقد كانتْ ماري انطوانيت تجهَلُ أنّ الكَعك أغلى من الخُبز فإن كانُوا عدمُوا الخبز فقد عدمُوا الكعكَ قبلهُ.. ظلّت هذه القصّة لأكثر من ثلاث قرونٍ من الزّمان حتّى اليوم مدارَ ضرب الأمثال في انفصَال المسؤُول عن واقعِ النّاس ومعيشتهم.. لأنّها كانت تتكررُ في أزمنة وأمكنة مختلفة. أتساءَل فقط سيّدي الكريم إن كنتَ تعرفُ كيفَ يعيشُ المواط...