التخطي إلى المحتوى الرئيسي

روَائح .. ومذاقَات !


بعدَ مرورٍ عامٍ على نشرهِ في ثقافيّ "شرفُات".. أعيدُ نشرهُ
معَ دعوتي للأصدقاء مشاركَتي الرّوائح الرمضَانيّة التي علقَت بذاكرتهِم "الطّفلة"

محبّتي

.

.



لا يعني رمضَان الكثير لطفُولتي، ربما يشغلُ حيّزا ضيقاً من مساحة الذّاكرة لكنّ الأمرَ الذي أثق بهِ أنّ الروائح والمذاقاتِ لا تخُون وأنّ للرّائحة في حكايةِ ذاكرتي مسَاحة جميلَة ..

لماذَا أجدني مولعة بالروائِح ؟
لا أدري .. ربّما لأني مدينَة لها بإرجاعِ الكثِير من شغب الطفولة الذي لا تزالُ تمارسهُ بي
قبلَ 15عاماً أو ربّما يزيد ، كانَ هنالكَ الأبُ الذي تعدّ له زوجتهُ الطيبة وجبتهُ المفضلة التيْ يستمتعُ بها بعد عودتهِ من صلاةِ التراويح .. تتحدثُ إليه بقليلٍ من السواحليّة وكثيرٍ من العمانيّة ، ثمّ تقدّم لهُ "الأوجي" ، الطّبق اليومي الذي يؤذن رمضان بدخُوله في مطبخ تلك المرأة وفي مائدة ذلك الرجل ..
تلك المرأة هي أمي .. وذلك الرجل أبي !

بعد 15 عاماً ، يقلّ أو يزيد لا تزالُ أمي تعدّ "الأوجي" لوالدِي السّبعينيّ .. يحتسيهَا برضاً كبِير ، ويتمتمُ قبلها بأدعية خفيضةٍ لا أكترثُ كثيراً لسمَاع جرعَاتها الروحانيّة، فقط أؤمن أن كثيراً من الروحانية كذلك تحملها هذهِ الأكلة الأقرب إلى الشوربة .. نسيتُ أن أقول أنّ هذه الأكلة تسمّى بالعمانيّ "الحسيوة"
***

كنّا أربعَة .. أنا وأختي التي تكبرني بثلاثِ أعوَام وشقيقين أصغر منّي .. كنا نحبّ رمضان كثيراً ، فرغمَ أنه لا يعني لنا الكثيرَ وقتهَا لأننا لم نكن قد بلغنا سن الصيام بعد إلا أننا كنا نستمتعُ بالمميزات الإضافية التي تمنحُ لنا في نهارِ رمضان .. إذ كنا نستمتعُ مرتين بالطعام اللذيذ الذي كانت تطهوه أمي استعداداً لحفلة الأكل الليلية ، تارةً في النهار والناس صيام وتارةً في الليل إذ يفطرُ المفطرون ونحنُ معهم مفطرُون ..
لكن الميزة الإضافية التي كانت تمنح لنا هي أن تشتري أمي لنا كراتين اللبن الصغيرة ، والتي لا تزالُ تستهلك في السوق حتى اليوم ، نفتحُ الوعاء الكرتوني الأصفر للبن ونحضرُ كيسة بطاطس عُمان ونكسّر ما بها إلى قطع صغيرة ثم نصبّه في اللبن ونستمتع برشفه حتى آخر قطرة ..
مساء أمس قررت أن أشتري ذات اللبن.. طحنت قطع الشيبس وغمستها في اللبن وأعطيتها لابن أخي البالغ عامين .. شربه باستمتاع كبير ، كنت أنظر إليه باندهاش وهو يمارس متعته الطفولية تلك .. وقررت أن أفعل مثله علّني أحظى بمذاقٍ طفوليّ ممتع .. غير أني حين ارتشفت الرشفة الأولى شعرت بمذاق الفلفل الحارق مع اللبن الحامض يلسعني .. كان المذاق غريباً للغاية .. أدركت لحظتها أن كثيراً من شغب الطفولة قد انقضى .. وأن تلك الأزمنة لم تعد تعني لي شيئاً ، أصبحت غريبة عني .. غريبةً عني تماماً !
***

في عائلتي منذُ يدخلُ رمضان أبواب بيتنا .. تبدأ طقوسٌ جديدة لا تحل علينا إلا كل عام حين يقبلُ رمضان وتغادرنا بمغادرتهِ ، أبرزها أكلة "المسيتو" السواحلية التي تحترفها أمي ..
لم يسبق لي أن جرّبتها بيد امرأة أخرى ، كما لم يسبق لي أن قرأت عنها في كتب الطبخِ الكثيرة التي اقتنيتها لأقنع نفسي بأني أصبحت أنثى ناضجة تمارس مهمتها الفطرية بحبّ ،رغم إيماني بأن الطبخ هو "وسيلة سخيفة لإثبات الأنوثة" ..
لعلّها أمي التيْ أقنعتني بأن الرجل إذا تزوج شاعرةً وأحبّ ثقافتها فهذا لا يكفي لنجاح شراكتهما لأنها كزوجة حينَ يجوع زوجها ويبدأ نداء بطنهِ فإنها لن تصنعُ له وجباتٍ من ورق .. وموائد من قصائد !

لم أفكّر يوماً بأن أتعلم "المسيتو" من أمّي .. لإدراكي العميق أنها جزءٌ من التكوين النفسي الذي أرى بهِ أمّي .. ولأجل ذلك تعني لي هذه الأكلة الشيء الكثير
أدركتْ أمي منذ زمن بعيدٍ ما تعنيه هذه الطبخة لي ومع ذلك فهي ترفض أن تطبخها لي إلا في رمضان ..
وقد سلمت بذلك مؤمنة ً بأنها تستحقُ الانتظار عاماً كاملاً .. وهكذا ظلت "المسيتو" زائراً جميلاً يزور مطبخ أمي الصغير بحبّ .. وألتهمها بحبٍ أكبر طوال 10 رمضانات جميلة هي عمرُ ما صمتهُ حتى اليوم، منذ قررت أن أنضم إلى عالم الصيام في الحادية عشرة.
وأنا في مسقط بعث لي أخي يقول لي: "اليوم أمي عاملة لنا مسيتو ع العشا ، وما وقفت عن ذكرك" .
حينُ عدتُ إلى نزوى قالت لي أمي: عملنا مسيتو من كم يوم .. افتقدتك وناديتك كثيراً .. ما "صنّت" أذنك؟
ضحكتُ وأجبت: بلى .. ابنكُ أوصلَ النّداء !
***
أكرهُ التونة وكلّ ما يمتّ للتونة بصلة وليسَ هذا لشيءٍ سوى لأن رائحة التونة كذلك تذكرني بأشياء لا أحبّ تذكرها .. أشياء صنعتْ هذه العَلاقة الممسوسة بيني وبين التونة ..
حينَ أصبحتُ في الصفّ الرابع الابتدائيّ ، قرّر أبي بأنه آن الأوان لي أن أتدرّب على الصيَام استعداداً للعام المقبل. فرحتُ كثيراً لأنني شعرتُ بأنني أصبحت أخيراً كبيرَةً للقدر الذي أصبحتُ فيه مؤهلة ً لولوج عالم الصائمين . قررتُ في اليوم الأول أن أصوم عن الطعام ولا أفعل مع الماء .. وبزغ النهار الجميل بكل سكينة رمضان وهدوئه ، والطفلة تلعب وتمرح وتستعرض عضلاتها وتخبرُ كل الأصدقاء بأنها كبرت وأصبحت تصوم .. لكن ما أن انتصف الظهرُ حتى كنتُ أتسند على الجدران كي أميز الأشياء أمامي .. شربتُ كثيراً ، للمرة الأولى والثانية والخامسة ، وصيامُ الطعام يشتد بوطئته عليّ .. آخر ما أذكرهُ من مرات شربي للماء أني ولجت إلى المطبخ وما أن أمسكت بكأس الماء حتى خارت قواي وسقطت .. كان آخر ما سمعتهُ صوت ارتطام الزجاج بالأرض .. انتهى كل شيء !
كانت هنالك أصوات كثيرة تختلط عليّ .. صوت أمي ربّما ، باب السيارة وهو يفتح ، خطوات سريعة على الأرض .. أفقت في المستشفى على صوت طبيبٍ عُمانيّ .. بدا وجههُ أليفاً ومتناغماً بلحيتهِ الكثة مع أجواء رمضان .. وضع أنبوباً مغذياً على يدي وغادرني .. انتبهتُ لحظتها لأمي وأخي .. شعرتُ بخجلٍ كبيرٍ حين اكتشفتُ أيضاً أنني كنت حافية ، سألت أمي عن نعلي فأجابتني أنه في السيارة.
جاءتني المضمدة وقدمت لي بلطفٍ شديد وجبة صغيرة .. لا أزال أذكرُ تماماً كيفَ كانت ، التقطت أمي منها قطعةً مثلثة من خبز التوست ..خبزتان رصّتا على بعضهما
حين قرّبته من فمي كانت رائحتها كريهة جداً .. لا أدري هل كانت كذلك أم أن الجوع كان قد أدّى وظيفته في حاسة الشم لدي أيضاً !
كشفتُ عن الحشوة التي بين قطعتي التوست ، فوجدتُ التونة مسترخية ً بسلام..
هكذا لم أعد أنا والتونة أصدقاء .. ويومها قررتُ ألا أرخي أنفي لرائحتها، منذ ذلك اليوم بدأت القطيعة الحقيقيّة بيننا ..
***
رمضَانٌ جديدٌ ومذاقات جدِيدة .. وذاكرَة طويلَة من الرّوائح التيْ لا تنتهي .. وَحدها الحياةُ كفيلَة بصناعَة الرّوائح الأجمَل .. والمذاقات الأرقى التي ستحتفظُ الذّاكرَة بنزقهَا لعشرِين رمضَان قَادم ..
***

( الرّوائح طرقنَا المختصرَة لفهم انسَانية الأشياء )
بودلير

تعليقات

  1. عائشة هل تتذكري، لما سألتك عن ( المسيتو )؟!


    وقلتي بأنه مثل ( البابلوه ) عندنا



    قرأت هذا المقال قبل سنة، كنت حينها ذاهبا الى المجلة التي كنت محررا فيها، وعلي الأنصاري يتذكر ذلك جيدا



    تحية

    ردحذف
  2. أهلاً تركي .. أذكر القليل

    هيَ أكلة سواحيليّة المنشأ كأكلَة البابلو .. بلوشيّة المنشأ
    ولكنها طبعاً تختلف في المكوّنات..
    هي مزيج بينَ أرزّ منقُوع معَ عدس أبيَض ثمّ يطبخ على النار .. ويهرَس

    وتؤكَل مع المرَق .. الأفضل دائماً مرق الدجاج !

    مودّة لك تركي .. ولعليّ

    ردحذف
  3. عائِشة السّيفي ...

    مررتُ هُنا لـ أكثر من مرّة ..

    تدوينة تُثيرُ الحنين ...

    تحيّة ...

    ردحذف
  4. عائشة
    يعطيك العافية

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن كُورونا، وفقر اللقاح، والشّعب العُمانيّ القنوع: أسئلة غير قنُوعة إطلاقاً

  تحذير: إن كنت لا تحب لغة الأرقام فلا تقرأ هذا المقال   في نُوفمبر 2020، سألتُ مارجي فان جوخ، رئيسَة وحدة المواصلات واللوجيستيات في المنتدى الاقتصادي في دافوس عن استقرائها لشكلِ السباق العَالمي نحوَ اللقاح فأجابتني بأنّ حربَ اللقاحات قد بدأتْ بالفعل وأنّ كل دولة ستكونُ معنية بشعبها فحسب، وأنّ ثلاث عوَامل ستحددُ أسبقية الدول في الحصول على اللقاح، أولاً: ذكاء السياسيين في كلّ دولة وحنكتهم الدبلوماسية ستوضع تحتَ الامتحان الحقيقي لاختبار مِرَاسهم في التفاوض على أكبر عدد من الجرعات مستغلةً علاقاتها الدولية وشبكة معارفها للحصول على أكبر كمية بأسرع وقت ممكن، ثانياً: قدرة فرقهِم الاستراتيجيّة على استقراء مستقبل إنتاج اللقاح وأيٍ من شركات إنتاج اللقاح ستنتجُ أولاً وبفعالية تحصين أكبر وثالثاً: قدرتها المالية التي ستحدد مقدرتها على المخاطرة بشراء لقاحات لم تعتمد بعد بناءً على استقرائها للمستقبل، (إنّها مقامرَة عليهم اتخاذها وإلا فالنتائج وخيمة). معربةً عن قلقها من أنّ المرحلة القادمة ستفتقد المساواة في توزيع اللقاح. (عائشة، إنهم يجوبون العالم -بينمَا نتحدّثُ- بملايين من الكاش لحجز اللق

اسميْ عائشَة . . وهذهِ حكايتيْ ! (1)

ملاحظَة للقارئ قبلَ الشّروعِ في القرَاءَة: عائشَة حياتهَا. . صفحة بيضَاء جداً ! أشاركُ قليلاً من بيَاضها إيَّاك وأودعُ الباقيْ لهَا ولمن تحبّ .. إذا كنتَ تحملُ مسبقاً أيةَّ "مخلّفات داخليَّة سوداء" فالرجَاء عدم القرَاءة حولَ عائشَة: عائشَة .. قد تكُون أنا أو قد تكُونُ أنتَ .. وليس بالضرُورَة أن تكُونَ من تقرأ لها الآنَ في هذهِ المدوّنة قد يتضمّنُ أدناهُ حكَاياتِي أنا .. وقد يكُون خليطاً من حكاياتِ صديقاتٍ أخريَات .. أجمعها في حياةٍ واحدَة حافلة تستحقُ أن يمتلكَ صاحبها حلماً جميلاً عائشَة التيْ أحكي عنها هنَا.. كائنٌ يحلمُ بحياةٍ جميلة رغمَ يقينها أنّ الحياة لن تكونَ ذلك بالضرُورة .. وهي فتاة ٌ بسيطَة جداً .. يحكيْ بعضهُم .. أنّها لا تزالُ طفلة ً ترفضُ أن تكبر .. ويقولونَ أنّها تحوَّلتْ إلى زوجةٍ عاديةٍ غارقةٍ في تفاصيلِ حياتهَا اليوميَّة بعد زواجها .. يقولُ بعضهمْ أن عائشَة لم تعُد تهتمّ كثيراً بمن حولهَا .. وأنّها تحوَّلتْ -كآلافِ البشر حولنا- إلى كائنٍ غير معنيّ بالضرورة بجدالاتنا الثقافيَّة اليوميَّة المملة .. التيْ قد أثيرها أنا أو أنتَ أو عبيد أو جوخة أو علياء من المثقفي

قلْ لي أنت تعمل في الديوَان.. أقل لك كم جنَيت؟!

جارنَا أبو أحمَد .. الذي أخبرتكُم عنهُ ذات مرَّة .. الرّجل الصادق الصدوق الذي نذرَ نفسهُ ومالهُ في خدمَة الناس .. كانَ كلّما أخرج صدقة ً أو زكاة ً للناس .. جاءهُ أناسٌ أثرياء آخرون يطالبُون بنصيبهم من الزّكاة .. وذلك لقولهم أنّ أبا أحمد يوزّع معونات يصرفها الديوان لهؤلاء الفقراء .. يأتون طارقين الباب مطالبين بحقّهم قائلين: نريد نصيبنا من فلوس الديوان .. ورغم أنّ أبا أحمَد لم يتلقَ في حياتهِ فلساً لا من ديوَان السلطان ولا ديوَان هارون الرشيد .. إذ بنى نفسه بنفسه .. فامتهنّ كل المهن البسيطة التي لا تخطر على البال .. بدأ عصامياً وانتهى .. لا أقول ثرياً وإنما ميسور الحال .. أذكرُ أنّ امرأةً أعرفها وهي من قبيلة البوسعيد .. وهي من العوائل التي تستلم نهاية الشّهر راتباً شهرياً بثلاثَة أصفار لا لشيءٍ سوَى أنها تقرب لفلان العلانيّ الذي يشغل منصب مدير دائرة الصحون والملاعق في الديوان الفلاني أو البلاط العلاني وهي أيضاً "تصير ابنة عم ولد زوجة خال الوزير الفلاني" ذهبت تشتكي مرةً من أنّ أبا أحمد لابد أنه يتلقى مبالغ أكثر منها من الديوان فلا هو ابن سفير ولا ابن أخت زوجة الوزير ولا هو من أص