التخطي إلى المحتوى الرئيسي

على الكبَارِ أن يدفعُوا الثمَن أيضاً !


عائشَة السيفيّ

ufuq4ever@yahoo.com



حينَ كنتُ في الابتدَائيَّة، اعتادتِ المعلّمة أن تعطي "حطبة شوكليت" لأوّل طالبة تنهي حلّ أيّ مسألة رياضيّة متعلّقة بدرسِ ذلك اليوم..

، وقد استمتعتُ بتلك الحظوَة في أغلب الأحيان .. إلا حينَ انتقلتُ للعامِ التالي وانتقلت إلى الصفّ طالبة ٌ جديدَة .. كانتْ ما أنْ تطرحَ المعلّمة المسألة حتّى تهبّ الطالبة وقد أنهتْ حلّها.. ولم يكنْ ذلكَ يستغرقها أكثرَ من دقيقَة ..

أثارَ نشاطها غيظي وغيرتيْ .. وحاولتُ في كلّ مرةٍ منافستهَا ولم أستطع .. كنتُ بمجرَّدِ أن تطرحَ المعلّمة المسألة حتّى أنسى كلّ شيءٍ وأركز في حلّها بأقصى سرعَة وفي حقيقة الأمرِ أنّي كلما كنتُ كلمَا أسرعتُ في حلّ المسألة كلّما كثرت أخطائي في حلّها وتأخرت عن تلك الطالبةِ والبقية .. كانَ حنقي يزدادُ أكثر على تلك الفتاة التيْ سحبتِ البساط من تحتي دونَ أن أستطيعَ بشتّى الوسائل أن أسبقها وأحظَى ب"حطبة الشوكليت" تلك ..

حينَ وجدتُ أنّه ليسَ بالإمكانِ منافستها ذهبتُ مشتكية ً إلى المعلمَة مع رفقةٍ من زميلاتي الحانقات أنّ الفتاة تخرجُ كلّ يومٍ بـ"حطبات شوكليت" بعدد المسائل التي تطرحها علينا المعلّمة .. فذهبنَا مطالباتٍ بأن نحظى نحنُ أيضاً بنصيبٍ من الكعكة .. وكانتْ إجابة المعلّمة بسيطة: " هذه ليستْ مشكلتيْ أو مشكلة الطالبة، هذه هي مشكلتكنّ.. ما دامت الطالبة لا تغشّ وتحل بشكلٍ صحيح وسريع فإنّ الشوكولاتة لها بالتأكيد"

جنّ جنوني وأنا أفكِّرُ ما الذي بالإمكان فعله .. حتّى أنني نلقتُ مكانيْ يوماً في المقعد الذي يقعُ خلفَ مقعَدِها لأحاولَ أن أتأكّد إن كانت الفتاة قد كتبتْ حلول المسائل في الدفتر قبل أن تطرحها المعلّمة إلا أنني وجدتُ دفتر الطالبة ناصعاً ..

قلتُ: يا عائشَة.. لا سبب لسرعَة هذه الفتاة إلا أنّها تمتلك حلولاً للمسائل في البيت .. وما فعلتهُ هوَ أني ذهبتُ للمعلمة قائلة ً أنّ الفتاة لابدّ أن تمتلك حلولاً للمسائل تحفظها جيداً في البيت.. فقالت لي المعلّمة: "غداً أطرح مسألة ً لم ترد في مسائل الكتاب" وكانَ أن فعلتْ ذلك ونالت تلك الفتاةُ أيضاً "حطبة الشوكليت" .. كانَ هوسي وغضبي قد بلغَ حدّ الهستيريا ما دفعنيْ يوماً للبكاء أمام أمّي مشتكية ً أنّ في الأمرِ "إنّ" !

فقالتْ أمّي ببساطة وعيُونها على خيُوط "السين العمانيّ" الذي كانتْ تغزله: ليش حارقة أعصابش؟ روحي سألي البنت..

شعرتُ أنّ أمي وضعتْ لي خطّة النجاة .. ضغطتُ على كبريائي الطّفل وذهبتُ لسؤال تلك الفتاة التي أجابتنيْ وببساطة شديدة: أحضّر الدرس في البيتِ قبل أن تشرحه المعلّمة .. أفهمه وأحلّ المسائل .. فإن أخطأتُ في أيّ مسألةٍ عدتُ وحللتها لمرةٍ واثنتين وثلاثة حتّى أحصل على النتيجة المطابقة ..

ومنذ ذلكَ اليوم بدأتُ أمارسُ ما قالتهُ لي رغبة ً منّي في اكتشافِ أهليّتي في المنافسة إذ كنتُ سابقاً أحلّ بناءً على فهمي للمعلمَة في الحصّة الدراسيّة دون أن أفكّر يوماً في أن أحضّر للدرسِ مسبقاً .. وما أنْ بدأتُ ذلكَ حتّى بدأتْ "حطب الشوكليت" تتزايدُ في جيبيْ وبدأتِ الثقة تدبُ في نفسيْ مجدداً ، حتّى استطعتُ التفوق على تلك الفتاة مجدداً .. وفي نهايَة العام سألتنيْ المعلّمة : ألم أقل لك أنّها مشكلتكِ لا مشكلتها؟

تذكّرتُ هذهِ القصّة وأنا أتصفّح المستندات الرئيسيّة لمناقصَة كانت الشركة التي تعمل بها قد أعدّتها لإحدى المشاريع الضخمة وكانت المناقصَة هيَ جزءٌ من مشروعٍ كبيرٍ تتفرعُ تحتَهُ مشاريعُ صغيرة وتمّت دراسَة جدوى ذلك المشروع بعد مباشرة البدء في المشروع الأضخم ففضل ملاّك المشروع طرحهُ كمناقصَة منفصلة عن المشروع الرئيسيّ الذي يتبعهُ المشروع الصّغير ..

قلتُ لرئيسي متذمرةً: لماذا تطرحُون هذا المشروع الصغير للمناقصة؟ أنا متأكدة أن المقاول الفلانيّ الذي يمسكُ بالمشروع الضخم الذي ينضوي هذا المشروعُ تحتهُ سيستحوذ عليه ويفوزُ بالمناقصة بعد تقييم عرضهِ من الناحية المالية والتقنية..

ثمّ أتبعتُ: هذا ليس عدلاً.. فضخامة شركة هذا المقاول وتكاملها من ناحية الموارد البشرية والآلات والاحترافيّة لن تترك فرصة ً أمام المقاولين الصغار في السوق.. هذا المقاول يستحوذ على كلّ المشاريع الضخمة فلم أمرّ على مشروع داخل مسقط وخارجها إلا وجدتهُ هو المقاول الذي ينفّذ المشروع ..

فردّ عليَّ رئيسي ببساطة: وإذن؟ هذه ليسَت مشكلَة مالك المشروع أو الاستشاري أو مشكلة المقاول الكبير .. هذهِ مشكلة المقاولين الصغار..

حينَ غادرنيْ رئيسي ، تذكرتُ أخطبوط البرمجيّات العملاقة مايكرُوسوفت، وكنتُ قبلها بأيّامٍ قد قرأتُ أنّ الاتحاد الأوروبيّ قد رفع قضية ً ضدّ مايكروسوفت بتهمَة احتكارها لسوق مشغلات الانترنت .. وتضييعها الفرص على بقية الشركات الأوروبيّة الأخرى وذلك لأنّ مايكروسوفت ترفقُ مشغل الانترنت الخاصّ بها "انترنت إكسبلورر" من ضمن باقة البرامج الموجُود في الويندوز مباشرةً في الجهاز وهوَ ما يعنيْ أنّ المستخدم سيلجأ لاستخدام المشغّل المتوفر لديه مباشرةً دون اللجوء لمشغلات انترنت أخرى .. وقد انضمّت شركة جوجل التيْ تملك مشغل الانترنت "كروم" وانضمَت شركَة مشغل الانترنت "موزيلا" أيضاً في المجموعة ضدّ مايكروسوفت .. وتوجّهتُ للبحث إن كانتْ هذه الشركات قد ربحَتْ دعوَاها ضدّ مايكروسوفت أو لا؛ لأجد أنّ مايكروسوفت رفعتْ دعوَى معاكسَة ضدّ جوجل أيضاً لأنّه يضمّن أيقونة تحميل متصفحهِ في واجهَة موقع البحث وهو ما ألزم جوجل على إزالته من صفحة البحث الرئيسيّة..

هذه المشكلة تحديداً وشبيهاتها جعلتْ مايكروسوفت نزيلاً دائماً في المحاكم الأميركيّة والأوربيّة التي أصابها الصداع من كثرَة القضايا التيْ تردّ كل عامٍ بأشكالٍ وألوانٍ مختلفة ضدّ مايكروسوفت .. فقبل مشكلة مشغّل الانترنت انترنت اكسبلورر .. خسرت مايكرُوسوفت قضيّتها التي رفعتها أيضاً ضدها الاتحاد الأوروبيّ ومجموعة من صغار الشركات التي تمتلك مشغلات موسيقيَّة وذلك لأنّ المشغل الموسيقيّ "ميديا ريل بلاير" يكون أيضاً ضمن باقة البرامج الموجودة أصلاً ضمن أيّ ويندوز موجود في أيّ جهاز .. وقد خسرت مايكرُوسوفت أكثر من مليار دولار في هذه القضيّة بعد أن أرغمت المحكمة مايكرُوسوفت بفصل هذا البرنامج عن الويندوز لإتاحة الفرصة أمام صغار المنافسين ليتجهَ إليهِم بقيَّة المستخدمِين .. وهوَ أيضاً ما حدث مع برنامج المحادثة "ماسنجر" الذيْ خسرت مايكرُوسوفت أيضاً حقوق وضعه ضمنَ باقة برامج الويندوز المجانيَّة بعد أن رفعت شركات المحادثة ضدَّهُ قضية ً نالت الفوز فيها ..

ما استطاعتِ المحاكم الأميركيَّة فعلهُ هوَ إقناع الآخرين أيضاً أنّ وجُود أخطبوط ضخم واحد ضمن مجموعة من الأخطبوطات الصغيرة هي مشكلَته هوَ وليستْ مشكلة الأخطبوطات الصغيرة التيْ يبدو من سابع المستحيلات أن تلتحقَ حجم الأخطبوط الكبير ما لم يتمّ تقطيعه إلى أجزاء أصغر حجماً تتساوى في الحجم مع الأخطبوطات الصغيرة .. وهو ما حدث بعد فصل الميديا بلاير والانترنت إكسبلورر والماسنجر عن الويندُوز الأصليّ ..

وأعتقدُ أنّ على صغار الشركات أيضاً في عُمان أن تُقنع محاكمنا بجدوَى ما فعلتهُ المحاكم الأميركيّة لأنّ المشكلة َ ليستْ دائماً في الصغير .. ولكنّ على الكبيرِ أيضاً أن يدفعَ الثمن أيضاً خاصّة حينَ يكُون خارجا المنافسةِ تماماً .. وهوَ ما حدث فعلاً في سوق الاتصالات الذي تحسَّن بعد انتهاء زمن الاحتكارِ فيه لشركةٍ واحدة ..

لا أعرفُ لمَ يراودنيْ إحساسٌ بأنّي سأسمع قريباً رفع محركات البحثِ الصغيرة دعوَى قضائيّة ضدّ أخطبوط البحث "جوجل"؟ لابدّ أن يومَ "جوجل" قد اقتربَ أيضاً من يومِ "مايكرُوسوفت" فيومٌ لها ويومٌ عليها ..

تعليقات

  1. نحن هنا اذن نلغي قانون الغاب "البقاء للأقوى"

    ردحذف
  2. مَاْ سَبَبْ تَسْمِيَة الشركات الكَبِيْرَة بِالْكِبار
    والصَّغٍيْرَة بالصّغار ؟

    أكيد لأنّها سعت لفرض نفسها في السوق .
    لماذا الصغيرة لا تطرح نفسها بقوة وتثبت أنها الأكفأ ؟

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

إذا تريدوا ملابس العيد، روحوا رقطوا (1)

5 قيم تعلمتُها من أميّ: غزالة بنت ناصر الكندية   عائشة السيفي صبيحَة يوم الأحد غسلتُ أمي وكفنتها مع أخواتي. جهزتُ لها لبسةً من حرير فأبلغتني المكفنةُ أن علي أن آتي بلبسة من قطن تخلو من الزركشة. اخترتُ لها أجمل ملابسها وبخرتُها كما كنت أبخر ملابسها لعشرات السنوات كل عيد. أذنتُ في أذنيها، وتأملت أصابعها المنفرجة وأنا أضع بينها الصندل. كانت كقطعة الحرير ببشرتها الصافية وكنت أحدثها: ما أجملك حيةً وما أجملك ميتة. كان مشهداً عظيماً لا أعرف كيف ألهمني الله لأعيشه. أعرفُ أنني كنت شاخصة العينين ولا أذكر أنني بكيت كثيرا.. كانت دموعي تنهمر بصمت إلى أن حملوها في الطارقة وتواروا عن الأنظار. لا أذكر كثيرا مما حدث بعدها فقد سقطتُ طريحة الفراش ليومين. ماتت أمي غزالة بنت ناصر الكندية بعد رحلة ثماني سنواتٍ ويزيد مع مرضٍ لعين اسمهُ ملتي سيستم أتروفي. ومنذ جرى تشخيصها، جُبنا بها أطباء العالم لعلنا نجدُ لها علاجاً فكانت النتيجة واحدة: إنه مرض نهايته الموت، الفارق فقط هو حتى متى سيعيش صاحبه. لسنواتٍ عاشت أمي وعشنا معها معاناةٍ مريرة لا يعلمها إلا الله ونحنُ نتأمل بعجزٍ شديد كيف كانت تنتقل من وهنٍ

اسميْ عائشَة . . وهذهِ حكايتيْ ! (1)

ملاحظَة للقارئ قبلَ الشّروعِ في القرَاءَة: عائشَة حياتهَا. . صفحة بيضَاء جداً ! أشاركُ قليلاً من بيَاضها إيَّاك وأودعُ الباقيْ لهَا ولمن تحبّ .. إذا كنتَ تحملُ مسبقاً أيةَّ "مخلّفات داخليَّة سوداء" فالرجَاء عدم القرَاءة حولَ عائشَة: عائشَة .. قد تكُون أنا أو قد تكُونُ أنتَ .. وليس بالضرُورَة أن تكُونَ من تقرأ لها الآنَ في هذهِ المدوّنة قد يتضمّنُ أدناهُ حكَاياتِي أنا .. وقد يكُون خليطاً من حكاياتِ صديقاتٍ أخريَات .. أجمعها في حياةٍ واحدَة حافلة تستحقُ أن يمتلكَ صاحبها حلماً جميلاً عائشَة التيْ أحكي عنها هنَا.. كائنٌ يحلمُ بحياةٍ جميلة رغمَ يقينها أنّ الحياة لن تكونَ ذلك بالضرُورة .. وهي فتاة ٌ بسيطَة جداً .. يحكيْ بعضهُم .. أنّها لا تزالُ طفلة ً ترفضُ أن تكبر .. ويقولونَ أنّها تحوَّلتْ إلى زوجةٍ عاديةٍ غارقةٍ في تفاصيلِ حياتهَا اليوميَّة بعد زواجها .. يقولُ بعضهمْ أن عائشَة لم تعُد تهتمّ كثيراً بمن حولهَا .. وأنّها تحوَّلتْ -كآلافِ البشر حولنا- إلى كائنٍ غير معنيّ بالضرورة بجدالاتنا الثقافيَّة اليوميَّة المملة .. التيْ قد أثيرها أنا أو أنتَ أو عبيد أو جوخة أو علياء من المثقفي

عن كُورونا، وفقر اللقاح، والشّعب العُمانيّ القنوع: أسئلة غير قنُوعة إطلاقاً

  تحذير: إن كنت لا تحب لغة الأرقام فلا تقرأ هذا المقال   في نُوفمبر 2020، سألتُ مارجي فان جوخ، رئيسَة وحدة المواصلات واللوجيستيات في المنتدى الاقتصادي في دافوس عن استقرائها لشكلِ السباق العَالمي نحوَ اللقاح فأجابتني بأنّ حربَ اللقاحات قد بدأتْ بالفعل وأنّ كل دولة ستكونُ معنية بشعبها فحسب، وأنّ ثلاث عوَامل ستحددُ أسبقية الدول في الحصول على اللقاح، أولاً: ذكاء السياسيين في كلّ دولة وحنكتهم الدبلوماسية ستوضع تحتَ الامتحان الحقيقي لاختبار مِرَاسهم في التفاوض على أكبر عدد من الجرعات مستغلةً علاقاتها الدولية وشبكة معارفها للحصول على أكبر كمية بأسرع وقت ممكن، ثانياً: قدرة فرقهِم الاستراتيجيّة على استقراء مستقبل إنتاج اللقاح وأيٍ من شركات إنتاج اللقاح ستنتجُ أولاً وبفعالية تحصين أكبر وثالثاً: قدرتها المالية التي ستحدد مقدرتها على المخاطرة بشراء لقاحات لم تعتمد بعد بناءً على استقرائها للمستقبل، (إنّها مقامرَة عليهم اتخاذها وإلا فالنتائج وخيمة). معربةً عن قلقها من أنّ المرحلة القادمة ستفتقد المساواة في توزيع اللقاح. (عائشة، إنهم يجوبون العالم -بينمَا نتحدّثُ- بملايين من الكاش لحجز اللق