التخطي إلى المحتوى الرئيسي

المليحة في الخمَار الأسوَدِ . . بعدَ ألفِ عامٍ !/ردُهات



عائشَة السيفيّ
ufuq4ever@yahoo.com

لعلّ كثيراً منكُم يذكر تلك القصّة المشهُورة للتاجر والشَاعر اللذيْن صنعَا أشهر دعايات العَرب في التاريخ . . وهي قصّة التاجر الذيْ ذهب يشتكيْ لشاعرٍ كانَ الأشهرَ في زمَانهِ، من أنّ نسَاءَ مكّة لا يقبلنَ على الأخمرَة التيْ يبيعها . . فأنشدَ الشاعرُ بينَ النَاس أشهر أبيات الغزَل التيْ حفظهَا التاريخ وتناقلتهَا الألسنُ :

قلْ للمليحَة فيْ الخمَار الأسودِ / ماذا فعلتِ بناسِكٍ متعبّدِ
قدْ كانَ شمّر للصلاةِ ثيابَهُ / حتّى وقفتِ لهُ ببابِ المسجدِ
ردّي عليهِ صلاتهُ وقيامهُ / لا تقتليهِ بحقّ دينِ محمَّدِ

ولمْ يمضِ يومانِ حتّى باعَ التاجرُ كلّ أخمرتهِ السودَاء فجاءَ يشتكيْ للشّاعرِ من أنّ الأخمرة السّوداء قد بيعَت بأكمَلهَا وبقيَت الأخمرة في الألوان الأخرى كاسدَة لا تشتريهَا النّساءُ ..

تذكّرتُ ذلكَ وأنا أمرُّ في السيتي سنتَر خارجة ً من أمسيَةِ شعريّة جميلَة
أقامهَا بيتُ الشعرِ بوجُود ثلّة من الأصدقاءِ المهتمين بالشّعرِ والشّعرَاء العمَانيينَ ومررتُ حينهَا على لافتَةٍ كبيرَة للدّعاية لشركَة عدسَات ملوّنة اعتلتْ دعايَتها صورَة مغنيَة مشهُورة . . وكنتُ أفكّرُ ترَى لو أنّ عجلة الزّمن عادتْ للورَاء واتّفقتْ شركَة العدسَات الملوّنة تلك مع شاعرٍ ليلقيْ قصيدَة ويمتدحَ حبيبتهُ ذاتَ العيُونِ الخضرَاء . . ترَى ما الذيْ كانَ سيحدثُ ؟!

تخيّلتُ حينهَا جمُوع الفتيات اللاتيْ امتلأتِ القاعَة بهنّ وهنّ يهروِلن مسرعَاتٍ خارجاتٍ من الأمسيَة يتسَابقنَ إلى أقربِ محلّ عدسَاتٍ ملّونة ليشترينَ العدسَات الملوّنة تماماً كما اشترتْ نساءُ مكّة قبل ألفِ عامٍ كلّ الأخمرَة السّوداء طمعاً في أن ينلنَ متعَة التفكِير بأنّهن قد يكنّ المقصُودَات أو يوحينَ للآخرين أنّهن المقصُودات . .

وتخيّلتُ دعَايَة للذّهبِ يظهَرُ فيهَا الشّاعرُ وهوَ يتغنّى بأبياتِ الشّعرِ في الحبيبَة التيْ تتقلّد الذهَب . . فتسَارعُ كلّ النساء لشراء ما لبستهُ تلك المرأة .. لتشتكيْ شركَة الذهب تلك أن تشكيلة الذهب التيْ لبستها الفتاة نفدَت وبقيت التشكيلاتُ الأخرَى ..

وإذا أردنَا نمطَ دعايةٍ أكبر لوجدنَا الإذاعَات تبثّ جميعها طوَال اليَوم ، الأبيَات التيْ تغزّل فيهَا الشاعرُ بعدسَات حبيبتهِ الخضر ، وقبلَ الأغنيَة تبادرُ المذيعَة لتسألَ الجمهُور سؤال الحلقَة .. ما لونُ عدسَات الحبيبَة في القصيدَة الفلانيّة للشاعر الفلانيّ المشهُور؟ لتنهَال الاتصالات عليهَا فتلكَ القصيدَة هيَ الـ Hit الحَالية في الأسوَاق والأكثر عرضاً في الميديا السمعيّة وشاشاتِ التلفزيُون ..

قبلَ عام منَ الآن تبَادر إليَّ هذا الشعُور وأنا أتابعُ حفلَ تنصيبِ باراك أوبَاما رئيساً للولاياتِ المتّحدة .. لتكُون الفقرَة الوحيدَة الخارجة عن إطار التنصيب السياسي الرسميّ هي اللحظَة التيْ اعتلَت فيهَا شاعرَة ٌ المنصَة وبدأتْ بإلقاء قصيدَة جميلَة عن الحريّة والسلام في أميركَا . .
لمْ تلقهَا متملقة ً أحداً . . ألقتهَا بحسّ الأنثَى الجميل . . الأنثَى الباحثَة عن الوطن الذي تحبّ .. وشعرتُ حينهَا كمْ أنّهم منحُوا الشّعر مكانتهُ الحقيقيّة التيْ يستحقّ حينَ جعلوه في مقدّمة أرقَى المراسم السياسيّة للدولَة وهوَ حفل التنصيب ..
حضرَ الشعرُ في تلكَ الأمسيَة قبلَ أن يصعَد أحدُ أشهرِ المغنيين الأميركَان ليغنّي مقطوعتهُ الغنائيّة .. وتمنيتُ حينهَا أنْ أجدَ لتكريم الشّعر هنا ما وجَدتُه هنَالكَ ..

وأنا لا ألُوم الشارعَ العامّ إذا انفصلَ شيئاً فشيئا عن فكرَة تربّع الشعر وسيادَته على أيّ فنٍ.. تمثيليٍ كانَ أو غنائيّ ..
فالشعرُ فقدَ رونقَه وأصبحَ الوَزن حبلَ غسيلٍ ينشرُ كلُ من يريدُ عليهِ غسيلهُ ..

وأصبحَ الناسُ أنفسهُم لا يعُون تماماً أهميّة القصيدَة . . ولا يدركُون كمْ تعنيْ .. يتّصل بكَ أحدهُم طالباً منكَ أن تكتبَ قصيدَة في عيدِ ميلادِ ابنتهِ وتشعرُ حينها كمْ أنّ الشّعر جاءَ اكسسوَاراً لحفلَة عيد الميلادِ تلكَ !

لا أعنيْ أنّ الشعرَ أيضاً يجب أنْ يظلّ في قصُوره المشيّد فأنا نفسيْ لا أوَافقُ قولَ الشاعر بول شاوول الذي يقولُ فيهِ أنّ الشاعرَ حينَ يصبحَ جماهيرياً لا يكُونُ شاعراً .. بمعنَى أنهُ حينَ يصبحُ الشاعرُ مطلوباً على مستوَى الجمهُور فهذا يعنيْ أنّه فقدَ قيمتهُ الشعريّة لأنهُ ببساطة تساوى المعنَى لديهِ بينَ المتلقي المتذوّق الحقيقيّ للشعر وبينَ الرجل العاميّ الذيْ لا يفقهُ الفرق أساساً بينَ الشعرِ وغيرهِ ..

لكنْ ينبغيْ كذلكَ أنْ يكونَ للشّعر قيمتهُ العليا التيْ تفوقُ حتّى مكانَة الأغنيَة اليَوم وما تتركهُ من أثرٍ في السّامعِ .. الشعر وحدهُ دونَ أن يأتيْ عكّاز صوتِ المغنّي أوْ ألحانهُ أو توزيع أغنيتهِ .. الشعر بكلمتهِ الجميلة لا الكلمَات المصفُوفة العارية من شموليّتها للشعر والتيْ يكفيْ أن تتوفّر آلات المكسجَة في الأستوديُو ليصبح صوت المغنّية "النشازِ" بديعاً ويأتيْ اللحن ليضع مزيداً من الكريمَة عليها وتنزلُ الأغنيَة الـ Hit بكلمَاتهَا البشعَة !

كانَ للشعرِ زمانهُ الحقيقيّ . . الذيْ إن تغنّى شاعرٌ بحبيبتهِ في قصيدَة .. سمعتهَا النساءُ أجمعهنّ وهببنَ ليكنّ هنّ المرأة الحلم التيْ قالَ الشاعرُ فيهَا أبيَاتِهِ . .

هلْ كانّ الشاعرُ سيفكّر أنّ الزمَن لو شاءَ أن يمرّ ليجدَ نفسهُ فيْ السيتيْ سنتَر بعد ألفِ عامٍ ينشدُ أبياته الثلاثةِ تلك في الخمار الأسوَد الذي اشتكَى التاجرُ كسَاد بيعِهِ . . لو تخيّل نفسهُ يلقيْ في منصّة السيتيْ سنتَر أبيَاتهُ تلك ، سمعهُ الناسُ وصفّقوا لهُ ، ثمّ خرجُوا لاهينَ في أشغَالهم ليأتيْ لهُ التاجرُ بعدَ يومين شاكياً لهُ أنّه لا الخمَار الأسوَد ولا غيرهُ بِيعَ من دكّانهِ !؟

تعليقات

  1. هه
    ذكرتيني بنانسي و"ابن الجيران"
    لا تقلقي التجار ينجحون في قراءة المجتمع أكثر من أي عالِم اجتماع..

    وعن الشعر آه لا أعرف ما يمكن أن يقال...

    ردحذف
  2. الشِّعـرُ وحـالُه أصبحَ يُحزِنُ كلّ من يهـوى الشعر ..!!

    فللأسفِ تُركَ الشِّعرُ وانصرفَ الناسُ لغيرهِ أو لمـا يُطلق عليهِ شِعرًا هذهِ الأيـام والذي يُردِّدُ فيهِ الشاعِرُ كلمـاتٍ " ماصِخـة " للأسف بلهجةٍ عاميّةٍ وأبياتٍ تشوبهـا الكُسور ..!!

    لا أدري لمـاذا .؟!

    عائشة ..!!

    تحيَّتي

    ردحذف
  3. لعلها الحداثة أخت عائشة جلبت معها للشعر كل شي ..
    و هذه إحدى نتائجها..
    شكرا لقلمك ..
    .
    .
    .
    ماجد العيسائي

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هلْ أنفقَ "قابُوس بن سعِيد" 64 مليُون دولار على منظمَاتٍ بريطانيّة؟

"قابُوس بن سعِيد يكرّم هيئة حقوق الانسان البريطاني 21 مليون دولار ومساعدَة للمنظمة المالية البريطانية 43 مليون دولار" هكذا وصلتنيْ رسالة تناقلهَا الناسُ مؤخراً عبر أجهزة البلاك بيري وبرنامج الوتسأب ومواقع التواصل الاجتماعي .. تناقلَ الناسُ الخبر "المُصَاغ بركاكة لغويّة" بحالة من الغليان حول تبرع السلطان قابوس لمنظمات بريطانية بـ64 مليون دولار. وصلتنيْ الرسالة من أشخاصٍ مختلفين ولم يستطع أيٌ منهم أن يجيبني على سؤالي حولَ مصدر الخبر .. كان جميعهم يتناقل الخبر دون أن يكلّف نفسه بالعودة إلى المصدر .. بحثتُ عبر الانترنت عن أيّ موقع أو تقرير يتحدث عن الهبةِ السلطانيّة "السخيّة" ولم أستطع الوصول إلى أيّ موقع إخباري أو رسميّ يتحدث عن التبرع. وحينَ حاولتُ البحث عن المؤسستين البريطانيتين المذكورتين أعلاهُ لم أجد لهما ذكراً على أخبار الانترنت إطلاقاً سوى مواضيع طرحها أعضاء منتديات وضعوا الخبر هذا في منتدياتهم وأشاروا إلى المؤسستين بهذا الاسم. حينهَا قرّرتُ أن أصلَ بنفسي إلى مصادر تؤكدُ لي –على الأقل- صحّة المعلومة من عدمها. حاولتُ البحثَ باللغتين عن مواقع ل...

إذا تريدوا ملابس العيد، روحوا رقطوا (1)

5 قيم تعلمتُها من أميّ: غزالة بنت ناصر الكندية   عائشة السيفي صبيحَة يوم الأحد غسلتُ أمي وكفنتها مع أخواتي. جهزتُ لها لبسةً من حرير فأبلغتني المكفنةُ أن علي أن آتي بلبسة من قطن تخلو من الزركشة. اخترتُ لها أجمل ملابسها وبخرتُها كما كنت أبخر ملابسها لعشرات السنوات كل عيد. أذنتُ في أذنيها، وتأملت أصابعها المنفرجة وأنا أضع بينها الصندل. كانت كقطعة الحرير ببشرتها الصافية وكنت أحدثها: ما أجملك حيةً وما أجملك ميتة. كان مشهداً عظيماً لا أعرف كيف ألهمني الله لأعيشه. أعرفُ أنني كنت شاخصة العينين ولا أذكر أنني بكيت كثيرا.. كانت دموعي تنهمر بصمت إلى أن حملوها في الطارقة وتواروا عن الأنظار. لا أذكر كثيرا مما حدث بعدها فقد سقطتُ طريحة الفراش ليومين. ماتت أمي غزالة بنت ناصر الكندية بعد رحلة ثماني سنواتٍ ويزيد مع مرضٍ لعين اسمهُ ملتي سيستم أتروفي. ومنذ جرى تشخيصها، جُبنا بها أطباء العالم لعلنا نجدُ لها علاجاً فكانت النتيجة واحدة: إنه مرض نهايته الموت، الفارق فقط هو حتى متى سيعيش صاحبه. لسنواتٍ عاشت أمي وعشنا معها معاناةٍ مريرة لا يعلمها إلا الله ونحنُ نتأمل بعجزٍ شديد كيف كانت تنتقل من و...

السيّد نائب رَئيسِ مجلسِ الوزراء ... الخُبز أم الكَعك؟

السيّد نائبُ رئيس الوزراء ... الخُبز أم الكعك؟ نسخَة من الرّسالة إلى وزيرَي التجارَة والصنّاعة والمَكتبِ السّلطاني. صاحب السموّ السيّد فهد بن محمُود نائبَ رئيسِ الوزراء.. تحيّة طيبة وبعد: دعني قبلَ أن أبدَأ رسالتيْ أن أحكي لكَ قصّة ماري انطوانيت .. آخر ملوك فرنسَا .. ففيمَا كانت الثورَة الفرنسية تشتعلُ والجماهيرُ الفرنسيّة الغاضبَة تحيط بقصر فرسَاي لتخترقه كانَت الجماهيرُ تصرخُ: نريدُ الخبز ، نريدُ الخبز! شاهدَت ماري انطوَانيت الجماهير يصرخُون من شرفَة قصرهَا وسألتْ كبيرَ خدمها: لماذا يريدُ الناسُ خبزاً؟ فأجابها: لأنهم لا يستطيعُون شراءه أيها الملكة! فردّت عليه بقمّة اللامبالاة والجهل: "إذا لم يجدوا خبزاً لماذا لا يشترونَ الكعك"! .. لقد كانتْ ماري انطوانيت تجهَلُ أنّ الكَعك أغلى من الخُبز فإن كانُوا عدمُوا الخبز فقد عدمُوا الكعكَ قبلهُ.. ظلّت هذه القصّة لأكثر من ثلاث قرونٍ من الزّمان حتّى اليوم مدارَ ضرب الأمثال في انفصَال المسؤُول عن واقعِ النّاس ومعيشتهم.. لأنّها كانت تتكررُ في أزمنة وأمكنة مختلفة. أتساءَل فقط سيّدي الكريم إن كنتَ تعرفُ كيفَ يعيشُ المواط...