التخطي إلى المحتوى الرئيسي

صدِيقَ "القواطي" يصمتُ بعدَ 8 أعوَام/ردُهـات

عائشَة السيفيّ

http://ayshaalsaifi.blogspot.com

أذكرهُ قبلَ 8 سنوَات . . يوماً وأنا أمرُّ في طريق العودَة إلى منزليْ بمريُول المدرسَةِ حيثُ أنزلني البَاص ..

شمسُ نزوَى كانت في وسطِ السّماء ، والصّيفُ بدأ يجترُ العرقَ من وجُوهِ المارّة.

مررتُ بجانبهِ وقد اختبأ رأسهُ في حاويَة القمامةِ الضخمَة.. كانَ يتمتمُ بجملٍ غير مفهُومةٍ وأنا أحدِّقُ إليهِ .. أحدّقُ إلى نصفِ جسدهِ المتسخ ، بدشداشتهِ البيضَاء التيْ استحَالت إلى لونٍ آخر مختلف ! خمّنتُ أنها كانت بيضَاء يوماً وفكّرتُ كم مضَى عليهَا ولم يمسّها الصابُون..

مررتُ بجانبهِ بمشيتيْ السّريعَة وصوتُ الكتب يعلُو وهيَ ترتطمُ يميناً ويساراً بجدرانِ حقيبتي الثقيلَة. رفعَ الرجلُ رأسهُ في حركةٍ سريعَة محدّقاً إليَّ .. أذكرُ تماماً تلكَ الارتعَاشة التي انتابتنيْ ونظرَاتِ عينيهِ الحادّة تصوّبُ نحوِيْ ..

استطعتُ أن أميّزَ رغمَ سطوعِ الشمسِ التيْ كانتُ تهاجمُ عينيهِ كم منَ التجاعيدِ التيْ غزَتْ وجههُ ! وفمهُ الملتوِي على نفسِه ينمّ عن سقوطِ أسنانهِ منذ أمدٍ بعِيد! بشرتهُ السمرَاء جداً التيْ بدَا أنّ الزمنَ انتهكَ حرمتهَا إضافة ً إلى أعوانٍ آخرين كشمسِ نزوَى . . بدتْ بُشرةً كادحةً للغايَة . . لم يعكّر صفوَ لونها الغامقِ إلا لحيَتهُ البيضَاء جداً وقد تفرقتْ على عرضِ وجههِ . . نظرَ إليَّ طويلاً ثمّ سألنيْ فجأةً : لدَيكِ قوطي؟ ( كانَ من الواضحِ أنهُ يبحثُ عن "قواطي" معدنيَّة ليجمعها فيْ "جونيتهِ" التيْ لفّ بهَا جسَدهُ ) . .

رغمَ توجّسيْ منهُ وإسراعيْ في المشيِ أجبته: لا ما عنديْ ، وفيمَا كنتُ أعدُو مسرعةً تناهَى إليَّ صوتهُ وهوَ يقولُ : ( الفقير مو يسوي ف هالدنيا؟ مكانه ذا التراب قبل لا يموت وبعد ما يموت )

مضَى يحدّثُ نفسهُ طويلاً . . ظلّ صوتهُ مستمراً وإن بدأ في الخفوتِ وأنا أبتعدُ عنهُ . . قال كلاماً كثيراً لم يعلقُ منهُ سوَى تلك الجُملة ..

ذلكَ اليَوم ظللتُ أفكّرُ لماذا هنالك فقرَاء؟ ولمَ لا يسَاعدهُم أحد؟ قلتُ في نفسيْ في طفوليَّةٍ شديدَةٍ أنني حينَ أكبرُ سأصيرُ مُخرجَة ً مشهُورة وسأصوّرُ هؤلاءِ الفقراء وأضعُ صورهُم في الصحف وفي شاشاتِ القنوَاتِ الفضائيّة !

أضحكُ كثيراً حينَ أتذكرُ أنني ظننتُ حينهَا أنّ أحداً لم يرَ ذلك الرجلَ بالمنظار الذيْ رأيتهُ بهِ ولم يحدّقْ إليهِ بالزاويةِ التي نظرتُ إليهِ من خلالهَا. .

قلتُ في نفسيْ : هل لمحَ أيٌ من المارةِ الذينَ كانوا حولي كمْ كانَ بائساً هذا الرجل؟

التقيتُ لمراتٍ طويلةٍ ذلك الرجلَ بعد ذلك اليَوم . . كنتُ أتساءلُ لمَ لمْ أصادفهُ قبلَ ذلك؟ أينَ كان؟ ومنْ أيّ بلادٍ جاء؟ أهوَ من مدينتيْ؟ ولمَ ساقتهُ الأقدارُ إلى حاويَة القمامة تلك بجانبِ بيتنا؟ ليحدثَ بيننا ذلك الحوَار غير المخطّط له . .

خلالَ ثلاثِ أعوَامٍ ربطتنيْ صداقة ٌ خفيَّة بذلك الرجل. كنتُ وأنا أتّجهُ إلى دكّان "عبدالستار" الهنديّ الذي كانَ يبيعُ في بقالةٍ صغيرةٍ بجانِب بيتنا أدسّ يديْ إلى حاويةِ القمامة بحثاً عن قوطي أو اثنين. . وأذكرُ أنيْ كنتُ أسأل عبدالستار إن كانَ لديهِ قواطي معدنيّة لا يريدهَا وفي وقتٍ من الأوقاتِ عقدتُ صفقة بينيْ وبين عبدالستار . . كنتُ أعطيهِ "حطبة" الآيس كريم التيْ كانَت شركَة الآيس كريم تكتبُ عليها أنّ بإمكاني الحصُول على آيس كريم آخَر مجانيّ مقابلَ أن يعطينيْ 4 قواطي معدنيَّة. كنتُ أدسّها بعدَ أن أقفزَ عليها بجسديْ الضئيل كيْ تنسحقَ في دائرةٍ صغيرة وأخبئها داخلَ جيبٍ في حقيبتيْ. . وكنتُ أرقبهُ في طريقِ عودتيْ حتّى إذا ما صادفتهُ مددتُ إليهِ بالـ"قواطي" التيْ جمّعتُها لهُ!

كنتُ أجمِّعُ عدداً لا بأسِ بهِ وحينَ تمضيْ أيَّامٌ عدّة أقلقُ وأنا أفكِّرُ . . هل ماتَ الرجلُ؟

كانَ صوتُ القواطي يعلُو كلّما زادَ عددها وكنتُ أحرجُ بشدةٍ أمام زميلاتي وصوتُ ارتطامها المعدنيّ يصدرُ منْ حقيبتيْ.. أذكرُ مرةً وفيمَا كنتُ قد وصلتُ متأخرةً إلى المدرسَة وكانَ دوريْ لألقيْ مقدّمة الإذاعَة المدرسيّة .. رميتُ بحقيبتيْ بقوةٍ على الأرضِ متجهةً إلى المنصّة وهنالك اندلقتْ "القواطي" من حقيبتيْ لتتبعثرَ على الأرضِ ، أذكرُ كيفَ أن الجميعَ حدَّقَ إليَّ بدهشةٍ فيمَا كانتْ نظراتُ المعلّمات وزميلاتيْ تلتهمنيْ. ذهبتُ عدواً إلى القواطي لأجمعها وأعيدَ إدخالها لحقيبتيْ . . وأذكرُ أنّ زميلةً ليْ أسرعتْ بمجرّدِ أنِ انتهيتُ من إلقاءِ المقدّمة إلى سؤاليْ : وطلعتيْ تجمعي قواطي بيبسي؟

نظرتُ إليهَا بصمتٍ ولا أعرفُ لم اغرورقتْ عينَاي بالدموع يومهَا ونبرةُ الكذبُ تظهرُ جلياً من تبريريْ: لا ما أجمع بس هذيلا القواطي باغتنهم لمشروع بسويه لجماعة أصدقاء المختبر.

توقفتُ منذ ذلكَ اليَومِ عن حمل القواطيْ في حقيبتيْ إلا أنني كنتُ أدسّها في الدولابِ الذي يضعُ فيه أشقائي أحذيتهُم.. كانُوا يشكُون دائماً منها وهم يمدّون بأيديهم فيجرحهُم معدنهَا وكنتُ أقولُ لهم دائماً : "الأبلَة مال أصدقاء المختبر قايلة نجمع قواطي واجد"

كنتُ حينَ أشاهدهُ أركضُ سريعاً إلى المنزل حيثُ أدسّ القواطيْ في كيسٍ بلاستيكيّ وأمدّها إليهِ . .

وكانَ ثمّة َ شعُور غريب ينتابنيْ وأنا أحدّق إليهِ وهو يتناولُها من يديْ . . لمْ يبتسِم يوماً ! كانَ عابساً دائماً ولم أكنْ أشعُر أنّه ممتنٌ وأنا أقدِّمُ لهُ القواطي . .

لا أعرِفُ لمَ لم يتحدّث إليَّ يوماً سوَى تلك المرَة الأولى التيْ سألنيْ فيها إن كانَ لديّ "قُوطي"؟

حتّى أنني كنتُ في كثيرٍ من الأحيانِ يخيَّلُ إليَّ أنه يتحدّث ليْ وكنتُ ألتفتُ إليه بعد أن أكونَ قد ولّيتهُ ظهريْ وأقولَ : "ها؟" مستفهمة ً إن كانَ قد وجّه لي حديثاً لم أسمعهُ إلا أنهُ كانَ دائماً يجيبنيْ بالصَمت .. الصَمتِ لا غير ، ولا مبالاة ٌ عجيبة ٌ تعلُو وجههُ . .

كنتُ أحبُّ وأنا أمرّ بجانبهِ مبطّئة ً سيريْ أن أستمعَ إليهِ وهوَ يحدِّثُ نفسهُ . . أحببتُ ذلكَ لأنني كنتُ أستمتعُ كثيراً في الحديثِ إلى نفسيْ بصوتٍ عالٍ وفي كثيرٍ من الأحيَان حتّى اليَوم أمشيْ وأنا أديرُ حواراتٍ مع نفسيْ وأقهقهُ أحياناً ولا أنتبهُ إلا حينَ تحدِّقُ إليَّ فتاةٌ أو مارٌ بجانبيْ وهوَ يصوِّبُ عينيهِ إلى هذهِ الفتاة "غريبة الأطوار" التيْ تتحدّثُ إلى نفسهَا بصوتٍ عالٍ ..

كانَ يشكُو أحياناً من انخفاض سعر جونيَّة القواطي : (كلهُم علينَا أولاد الـ...... ) وكنتُ أتخيلنيْ أوجِّهُ إليهِ عدسَة كاميرَتي وأنا أصوِّرهُ ! لماذا تخيّلتنيْ في فيلمٍ سينمائيّ؟ ولماذا تخيّلتني مخرجة ً بالذات؟ ليسَ كاتبَة أو مذيعة ً أو حتّى وزيرَة ً تلتقيهِ صُدفَة !

حينَ دخلتُ الجَامعَة .. مضَى زمنٌ بعيدٌ لم أرهُ ! غادرَ ذاكرتيْ تماماً ولا أعرفُ كمْ من الأعوَام مرَّت دونَ أن ألتقيهِ ! في كثيرٍ من الأحيانِ كنت أتذكرهُ وكنتُ أتساءلُ أني إذا التقيتهُ هل سيتذكّرني؟ لماذا لم أعد ألتقيهِ؟ أين غادرَ؟ وهلْ لا يزَال في نفسِ الوقتِ كلّ يوم يمرّ على حاويَة القمامةِ باحثاً عن القواطي..

قبلَ عامٍ قالتْ لي أمّي وهي تناولنيْ صينية ً عليها خبزٌ وشاي .. وتحدّثنيْ عن الرجلِ الأشيَبِ المسكين الذي لا يتحدّث أبداً .. يأتي بينَ يومٍ وآخر إلى البيتِ . . يتكئُ على جدارٍ وينكفئُ على نفسهِ.. حملتُ إليهِ الصينيّة وكدتُ أسقطهَا وأنا أجدُ أماميْ الرجلَ الذي لم ألتقهِ منذ أعوَام! لمَ لم أخمّنْ أنّهُ هوَ .. لماذا لم يخطرْ في باليْ بأنّ ذلك الرجل الذي أصابهُ الخرفُ حتّى أسكتَ لسانهُ كانَ هوَ صديقيَ القديم الذي جمعتنا سوياً صداقة "القواطي" ؟

منذ تلك المرّة وبعدَها لاحقاً . . كنتُ ألتقيهِ حاملة ً إليهِ بعض الطعَام . . احدودَب ظهرهُ كثيراً ونحَلَ. وتشعَّثَ شعرهُ ! غيرَ أنهُ كانَ صامتاً تماماً ! لم يعُد يحدِّثُ نفسهُ. . وشعرتُ حينهَا بالوحدَة وأنا أفكِّرُ أني أصبحتُ وحديْ من أستأنسُ بحديثيْ مع نفسيٍ بصوتٍ عال!

البارحَة صادفتهُ وأنا في السيّارة . . افترشَ رصيفَ إحدى الطرقِ وظلّ بنظراتهِ ساهماً يحدّق إلى نقطةٍ معلُومة . . تذكرتهُ للمرَةِ الأولَى صدِيقيْ! الرجلَ نفسهُ بدشداشتهِ التي غادرها البياضُ منذ زمنٍ طويل ! بشرته السّمراء الكادحَة . . فقدَت عينَاهُ تلك النظرَة الحادَّة ! وأصبحَ صامتاً أكثَر مما يجِبُ .. تمنيتُ حينهَا أن أنزَل إليهِ بحقيبةٍ ترتطمُ داخلها الكتب وأن يحدّق نحوي بحدّة ويسألنيْ : عندك قوطي؟ ، فمنْ منّا تغيّر؟ هل كبُرتِ الطفلة داخليْ؟ أم كَبُر هوَ ! ومنْ منَّا سقطَت منهُ ثمَانيَة أعوَام دونَ رجعَة ؟

تعليقات

  1. عائِشَـة ..

    كم هيَ مـؤثِّرَةٌ هذهِ القصَّة .
    وكم هو جميـلٌ قلبُ الطِّفْلَةِ " عائِشَة "

    دامَ قلبُكِ طُهرًا .!

    مودّتي

    ردحذف
  2. الذاكرة جميلة لكن في المخزون احيانا إبر تجرحها مما تسبب قلقا لانسانية الانسان كونه انسان! جميلة هذه الذاكرة التي لم تتجعد بعد !وقد مررت برجل في مدينة ممفس في ولاية تنسي امريكا يوما من الايام كانت حدة القهر والجوع والذل والاسقاط بالتبني للرجل الاسود في قارة البيض في عينيه اللتين لم ار قط كمثل تلك العينيين التي تشعان قنابل ذرية لتحرق الكون ، فتزلزت سيارتي واعتقد كل المكان من حولي
    شكرا عائشه ودمتي لنا جميعا مبدعة واعتذر عن اي خطا في اي مفردة مقدما

    ردحذف
  3. صفائح معذبّة.. عنوان آخر يا استاذة

    شكرا لك

    موسى البلوشي- الفنتكي

    ردحذف
  4. العزيزة عايشة
    عندما أفكر في طفولتي لا أجد لها إلا كلمة واحدة أنعتها بها (سذاجة)
    لعلنا متشابهون ؟!
    وصديقك راعي القواطي له من الشبه ما يزيد عن الأربعين ؟!
    عزيزتي بالله عليكِ كوني مخرجة بقلمك وأخبرينا عن ما تشغلنا سخافات الأيام عن الوقوف عنده .
    أحببت النص جدا .
    من القلب (شكرا)
    مودتي / مريم العدوي

    ردحذف
  5. نص رائع جداً "عواش" ...

    أبو أديب

    ردحذف
  6. الحمدالله وجدت من يفكر بنفس طريقتي .فأنا بين صحبي غريبة الاطوار كما يطلقون علي ولكني أرى بأنني لست كذلك .

    أحببتها جدا عائشه القصه جدا مؤثرة .سوف أكون من متابعي مدونتك بإذنه تعالى .

    مودتي :جود-رجاء

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن كُورونا، وفقر اللقاح، والشّعب العُمانيّ القنوع: أسئلة غير قنُوعة إطلاقاً

  تحذير: إن كنت لا تحب لغة الأرقام فلا تقرأ هذا المقال   في نُوفمبر 2020، سألتُ مارجي فان جوخ، رئيسَة وحدة المواصلات واللوجيستيات في المنتدى الاقتصادي في دافوس عن استقرائها لشكلِ السباق العَالمي نحوَ اللقاح فأجابتني بأنّ حربَ اللقاحات قد بدأتْ بالفعل وأنّ كل دولة ستكونُ معنية بشعبها فحسب، وأنّ ثلاث عوَامل ستحددُ أسبقية الدول في الحصول على اللقاح، أولاً: ذكاء السياسيين في كلّ دولة وحنكتهم الدبلوماسية ستوضع تحتَ الامتحان الحقيقي لاختبار مِرَاسهم في التفاوض على أكبر عدد من الجرعات مستغلةً علاقاتها الدولية وشبكة معارفها للحصول على أكبر كمية بأسرع وقت ممكن، ثانياً: قدرة فرقهِم الاستراتيجيّة على استقراء مستقبل إنتاج اللقاح وأيٍ من شركات إنتاج اللقاح ستنتجُ أولاً وبفعالية تحصين أكبر وثالثاً: قدرتها المالية التي ستحدد مقدرتها على المخاطرة بشراء لقاحات لم تعتمد بعد بناءً على استقرائها للمستقبل، (إنّها مقامرَة عليهم اتخاذها وإلا فالنتائج وخيمة). معربةً عن قلقها من أنّ المرحلة القادمة ستفتقد المساواة في توزيع اللقاح. (عائشة، إنهم يجوبون العالم -بينمَا نتحدّثُ- بملايين من الكاش لحجز اللق

إذا تريدوا ملابس العيد، روحوا رقطوا (1)

5 قيم تعلمتُها من أميّ: غزالة بنت ناصر الكندية   عائشة السيفي صبيحَة يوم الأحد غسلتُ أمي وكفنتها مع أخواتي. جهزتُ لها لبسةً من حرير فأبلغتني المكفنةُ أن علي أن آتي بلبسة من قطن تخلو من الزركشة. اخترتُ لها أجمل ملابسها وبخرتُها كما كنت أبخر ملابسها لعشرات السنوات كل عيد. أذنتُ في أذنيها، وتأملت أصابعها المنفرجة وأنا أضع بينها الصندل. كانت كقطعة الحرير ببشرتها الصافية وكنت أحدثها: ما أجملك حيةً وما أجملك ميتة. كان مشهداً عظيماً لا أعرف كيف ألهمني الله لأعيشه. أعرفُ أنني كنت شاخصة العينين ولا أذكر أنني بكيت كثيرا.. كانت دموعي تنهمر بصمت إلى أن حملوها في الطارقة وتواروا عن الأنظار. لا أذكر كثيرا مما حدث بعدها فقد سقطتُ طريحة الفراش ليومين. ماتت أمي غزالة بنت ناصر الكندية بعد رحلة ثماني سنواتٍ ويزيد مع مرضٍ لعين اسمهُ ملتي سيستم أتروفي. ومنذ جرى تشخيصها، جُبنا بها أطباء العالم لعلنا نجدُ لها علاجاً فكانت النتيجة واحدة: إنه مرض نهايته الموت، الفارق فقط هو حتى متى سيعيش صاحبه. لسنواتٍ عاشت أمي وعشنا معها معاناةٍ مريرة لا يعلمها إلا الله ونحنُ نتأمل بعجزٍ شديد كيف كانت تنتقل من وهنٍ

اسميْ عائشَة . . وهذهِ حكايتيْ ! (1)

ملاحظَة للقارئ قبلَ الشّروعِ في القرَاءَة: عائشَة حياتهَا. . صفحة بيضَاء جداً ! أشاركُ قليلاً من بيَاضها إيَّاك وأودعُ الباقيْ لهَا ولمن تحبّ .. إذا كنتَ تحملُ مسبقاً أيةَّ "مخلّفات داخليَّة سوداء" فالرجَاء عدم القرَاءة حولَ عائشَة: عائشَة .. قد تكُون أنا أو قد تكُونُ أنتَ .. وليس بالضرُورَة أن تكُونَ من تقرأ لها الآنَ في هذهِ المدوّنة قد يتضمّنُ أدناهُ حكَاياتِي أنا .. وقد يكُون خليطاً من حكاياتِ صديقاتٍ أخريَات .. أجمعها في حياةٍ واحدَة حافلة تستحقُ أن يمتلكَ صاحبها حلماً جميلاً عائشَة التيْ أحكي عنها هنَا.. كائنٌ يحلمُ بحياةٍ جميلة رغمَ يقينها أنّ الحياة لن تكونَ ذلك بالضرُورة .. وهي فتاة ٌ بسيطَة جداً .. يحكيْ بعضهُم .. أنّها لا تزالُ طفلة ً ترفضُ أن تكبر .. ويقولونَ أنّها تحوَّلتْ إلى زوجةٍ عاديةٍ غارقةٍ في تفاصيلِ حياتهَا اليوميَّة بعد زواجها .. يقولُ بعضهمْ أن عائشَة لم تعُد تهتمّ كثيراً بمن حولهَا .. وأنّها تحوَّلتْ -كآلافِ البشر حولنا- إلى كائنٍ غير معنيّ بالضرورة بجدالاتنا الثقافيَّة اليوميَّة المملة .. التيْ قد أثيرها أنا أو أنتَ أو عبيد أو جوخة أو علياء من المثقفي