التخطي إلى المحتوى الرئيسي

عنْ سيرَة الفقر/ردُهات


http://www.alwatan.com/dailyhtml/culture.html#4


لمحتُهم وأنا في السيّارة .. كانوا يمشونَ مقابلَ جامع السّلطان قابُوس في قلبِ سوقِ مدينَة نزوى .. حيثُ اكتظّ السوق بالسياراتِ القادمة من كلّ مكان ..
الأغلبُ جاءَ للتسوّق كما جزمتُ .. والبعض جاءَ للسياحةِ ربّما ! لا أعرف.. لكنّ منظرهم كانَ مميزاً ..
كانُوا خمسَة ، امرأة بدتْ لي أنّها أمّ البقيّة اللذينَ كانوا معها .. فتاتان وصبيّان ..أتذكّر ملامحهُم جيداً ..
كانتِ الأمّ –عكسَ أغلبِ نساءِ عمانَ ممن يرتدينَ العباءَة- ترتديْ جلباباً ! لم يكنِ الأمرُ بحاجةٍ للاقترابِ حيثُ بدا الجلبابُ قد فقدَ لونهُ .. خمنتُ أنه –كانَ قبلَ زمنٍ مضَى- بنيّاً أمّا ما بدا لي فقد كانَ خليطاً بين الرّماديّ والقمحيّ .. بدا مهترئاً للغاية وحينَ اقتربتِ السيّارة أكثر لمحتُ أزراراً خيطتْ على الجلباب بألوانٍ مختلفة تخبرُ الرَائي أن تلكَ الأزرار لا تنتميْ لذلك الجلباب..

سأقولُ لكمْ أنهُ مضى زمنٌ طويلٌ لم ألمحْ فتاة ً في السادسَة من عمرها تلبسُ الجلابيّة العمانيّة التقليديّة التي ترتديها الفتياتُ خاصّةً في المناطقِ الداخليّة من عُمان ولكننيْ رأيتها ذلك اليوم في تلك الفتاتين .. ولكنْ بشكلٍ مختلفٍ عن الجلابيّات المبهرجَة بالألوان والكريستال كتلك التيْ أشاهدُ نساءَ نزوَى يرتدينها في المناسبات الاجتماعيّة وأرَاها في التلفازِ حيثُ تتفنّن مصمّمات الأزياء في إضفاء لمساتهنّ الحديثة عليها .. لا لا ! ما رأيتهُ كان مختلفاً !
لقد فقدتْ ملابسُ الفتاتين ألوانهَا تماماً .. من بعيد يلمحُ المرءُ كم عتيقة ٌ تلك الملابس للحدّ الذي يتدلَى "الزَري" وهوَ الخيط المذهّب الذي يخاط أسفل الجلابيّة العمانيّة .. نعم كان الزري يتدلّى وقد انفصلَ عن قطعَة الملابس نفسها .. فيما قفزتْ أكمام ملابسهما لتكشفَ عن مسافةِ شبرٍ بعدَ يدهما في اتّجاه الكتف .. كانَ يبدُو أنّ ما تلبسهُ الفتاتانِ مضَى عليهِ شوطٌ زمنيّ كبير نمتْ فيه أجسامهمَا لتتعدّى مقاس ما تلبسانهِ ..
أمّا الصبيّان فقد بدا كلٌ منهما نقيضَ الآخر .. أحدهما كانَ يلبسُ دشداشة ً عُمانيّة .. خمّنتُ أنّ لونها أبيض ! كانتْ مليئة بالتجاعيد ويبدُو أنّ مكواة ً لم تمرّ عليها قطّ .. كانَت الدّشداشة ُ عريضة ً عليهِ جداً وطويلة ً جداً حتّى أنه تعثّر أكثر منْ مرةٍ بها.. وأمّا الأكمام فيبدُو أنهُ قامَ بطيّها لتناسبَ طولَ ذراعه .. بدَا واضحاً جداً أنّ الدشداشة لمْ تُـخَط لهُ وإنّما وُهِبتْ إليه .. ورغمَ عرضِ الدشداشةِ إلا أنّ ذلك لم يخفِ كم كانَ نحيفاً للغايةِ ذلك الفتى ..
وأمّا أخوه فقد بدا أقربَ لأخواتهِ بدشداشتهِ العمانيّة التيْ قفزتْ قليلاً قبلَ ركبتهِ وأكمامهَا التيْ تكادُ تصلُ مرفقيه ونحافتهِ الشديدة التي خمّنتُ أن عرضَ جسدهِ لا يتعدّى شبراً !

كانوا يقطعونَ السّوق وعيونهم لا تغادرُ واجهاتِ المحلاّت .. الفتاتانِ بدتا أكثر انتباهاً إلى عيُون المارّة التي كانتْ تسترقُ النظرَ إلى "وضعهم المزري" ولذلك ورغم نظراتِ الدهشةِ التيْ كانتا تبعثانِ بها إلا أنهما حرصتا على البقاءِ في حدودِ الانبهار !
أمّا الصبيّ الصغير صاحب الأكمام القصيرة فقد كانَ يبتسم .. يبتسمُ بشدّة وهو يحدّق في هذا العالم الغريب .. الكبير عليه ! يندهشُ كمنْ يجدُ نفسهُ في عالم الأحلام ! تخيّلوا مدينَة صغيرَة كنزوَى بأسواقها الصغيرة ومحلاّتها تبهرُ طفلاً كهذا يقرأ من يراهُ أنهُ يتخيّل نفسهُ قادماً إلى عالمٍ العجائب !
أمّا أمهمْ فيبدُو أنّها كانت الأكثر تواصلاً مع هذا العالم الخارجيّ المزدحم .. كانتْ تمسكُ الصبيّ من يدهِ وتمشيْ وعيونها على الأرضِ تكادُ لا ترفعهما إلا لتتبيّن الطريق ..
كسَرني منظرُ هذه العائلة .. هزّني كثيراً .. وفكّرتُ أنهُ في كثيرٍ من الأحيانَ تمنحكَ الصّورة ما يغنيْ عنِ الكلام ..
صرختُ بأخي بأن يوقفَ السّيارة لأذهب إليهم .. لم ينتبه أخي إليهم إلا حينَ طلبتُ منهُ أن يتوقّف لأغادر السيّارة ! نظر إليّ وقالَ لي: جننتِ؟ تغادرين السيّارة وسط هذه الجيوش من السيّارات الأخرى؟ .. ما الذي تريدين أن تقوليهِ لهؤلاء؟
قلتُ له.. لا أدري ! لا أعرف ما سأقول .. لكنني أخافُ ألا أراهم مجدداً .. لا أريد أن يذهبوا .. ربّما أستطيعُ فعلَ شيءٍ ما ..

لكنّ حوارنا انتهَى وقدِ اختفَى الخمسَة بينَ الجموع البشريّة والآلاتِ التي تقلّ جموعاً بشرية ً أخرى إلى وجهاتٍ مختلفة !

درتُ بعينيّ يميناً ويساراً لأبحثَ عنهم ، لكنّ أثرهم كانَ قد اختفَى تماماً !

هؤلاءِ الخمسَة شاهدتهم قبلَ رمضان بيوم .. ومنذ ذلكَ اليوم وهم في ذاكرتيْ لا يبرحونها !
أذكرُ مرة ً حينَ كنتُ في الاعداديّة في درسِ التربيَة الاسلاميّة حيثُ كانتِ المعلّمة تشرحُ لنا درساً عن أنّ الفقر ابتلاء كما أنّ الغنى والثرَاء أيضاً ابتلاء ! سألتنا سؤالاً غريباً : أيّهما تريدُ أن تكونَ كلٌ منكن؟ فقيرَة ٌ أم غنيّة؟
وأشارتْ بإصبعها إليّ ، كانَ سؤالها صعباً بحيثُ استغرقَ منّي وقتاً لأخبرها بأنني أكرهُ الفقر .. لأنني أكرهُ الظّلم ، ولا يعيشُ فقيرٌ طول حياتهِ دونَ أن يُظلَم بشكلٍ أو بآخر .. فعلّقت معلمتي: إذن تريدينَ أن تكوني ثريّة؟
قلت لها : ولا هذا ! لأنهُ يقتلنيْ أن أرى فقيراً يمرّ أمامي .. أو أسمعَ عنه .. بينمَا أملكُ أنا من المَال حاجزاً اسمنتياً يفصلنيْ عن عالمِ الفقراءَ هؤلاء ! يهزّني منظرُ الفقراء.. قلبيْ أضعفُ من أن أرى فقيراً ! وبوطني ..

هذا الحوارُ ظلّ عالقاً برأسي برغمِ ما صحّحته المعلّمة لي بأنّ الإسلام أوجدَ العدالة الانسانيّة بالزكَاة والصّدقة وعالجَ مشكلَة الفقراء والمساكين..
فكّرتُ حينها ما الذي أريدُ أن أكونَه إن لم أرد أن أكونَ فقيرةً ولا غنيّة؟ ربّما لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء! العيشُ مستورةً !

قبلَها بأيّامٍ وفيما كنتُ أجلسُ مع صديقةٍ ، اتّصلت بي صديقة ٌ أخرى لتطلبَ منّي أن أجمعَ الملابسَ التي لا نحتاجهَا في البيت للتبرّع بها لعوائل "عُمانيّة" .. قالتْ لي.. اجمعيْ جميعها قديمها وجديدها .. صالحها ومهترئهَا!
حينَ انتهتِ المحادثَة تمتمتْ صديقتي بشرودٍ .. أيعقلُ أنّ في وطنيْ أناساً لا يجدُون ما يلبسُون؟
الحقيقَة أني لم أجبها وقتها .. لكنّ منظر هؤلاءِ الخمسة أعادَ إليّ سؤالها.. وأعادَ إليّ سيرَة الفقر ..
أفتحُ شاشة التلفازِ حيثُ يعلو صوتُ المذيع وهوَ يقرأ رقمَ حساب الجمعيّة العمانيّة للأعمال الخيريّة وأتساءلُ كم منّا يمرّ على هذا الإعلان ويغيّر القناة دونَ أن يكلّف نفسهُ بالتفكير كمْ أنّ في وطنهِ من يحتاجُون إلى قليلٍ من التضامنِ يمليهِ علينا حسّنا الوطنيّ الذي يلي حسّنا الانسانيّ والدينيّ ! كم أنّ هنالك من لا يجدُون سقفاً يستظلُون بهِ عن شمسِ الظهيرَة في بقاع أوطاننا العربيّة

كمْ منّا يذكرُ رمضَان بلياليهِ وصحُونه الشهيّة وقائمَة قنواتهِ الممتلئة بالبرامجِ دونَ أن يفكّر أنهُ في مكانٍ ما .. في بقعةٍ يجهلها .. هنالكَ أناسٌ تنامُ عيُونهم .. وبطُونهم –من الجُوع والفقر- لا تنام ! وليسَ في مكانٍ بعيدٍ جداً .. ليسَ في مكانٍ أبعدَ عن وطنيْ ! وأوطانٍ أخرى تجمعنا بهِم أواصر القربَى والحبّ والسلام ولا إله إلا الله !

بعدَ أن غابَ الخمسةُ عن بصري بدأتُ في تقليبِ نظري بينَ واجهاتِ المحلاّت .. وأماميْ كان الحليّ والمصاغُ والذهبُ يلمعُ فيْ واجهاتِ محلاّت المجوهراتِ .. كنتُ أسألُ نفسي والسيّارة تعبرُ إلى الجهةِ المقابلةِ من الطريق؟
لوْ أنّ جميعَ هؤلاء الأثرياء الذينَ يعيشونَ بيننا ولكنْ في قصُورهم العاجيّة امتلكُوا قليلاً من حسّ الانسانيّة لإخراج صدقَات رمضان أو زكَاة أموالهم ، هل سيبقَى في أوطاننا أناسٌ لا يجدُون حتّى ما يلبسُون؟
آآآه .. لو كانَ الفقرُ والغنَى رجلينِ .. لقتلتهما !

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن كُورونا، وفقر اللقاح، والشّعب العُمانيّ القنوع: أسئلة غير قنُوعة إطلاقاً

  تحذير: إن كنت لا تحب لغة الأرقام فلا تقرأ هذا المقال   في نُوفمبر 2020، سألتُ مارجي فان جوخ، رئيسَة وحدة المواصلات واللوجيستيات في المنتدى الاقتصادي في دافوس عن استقرائها لشكلِ السباق العَالمي نحوَ اللقاح فأجابتني بأنّ حربَ اللقاحات قد بدأتْ بالفعل وأنّ كل دولة ستكونُ معنية بشعبها فحسب، وأنّ ثلاث عوَامل ستحددُ أسبقية الدول في الحصول على اللقاح، أولاً: ذكاء السياسيين في كلّ دولة وحنكتهم الدبلوماسية ستوضع تحتَ الامتحان الحقيقي لاختبار مِرَاسهم في التفاوض على أكبر عدد من الجرعات مستغلةً علاقاتها الدولية وشبكة معارفها للحصول على أكبر كمية بأسرع وقت ممكن، ثانياً: قدرة فرقهِم الاستراتيجيّة على استقراء مستقبل إنتاج اللقاح وأيٍ من شركات إنتاج اللقاح ستنتجُ أولاً وبفعالية تحصين أكبر وثالثاً: قدرتها المالية التي ستحدد مقدرتها على المخاطرة بشراء لقاحات لم تعتمد بعد بناءً على استقرائها للمستقبل، (إنّها مقامرَة عليهم اتخاذها وإلا فالنتائج وخيمة). معربةً عن قلقها من أنّ المرحلة القادمة ستفتقد المساواة في توزيع اللقاح. (عائشة، إنهم يجوبون العالم -بينمَا نتحدّثُ- بملايين من الكاش لحجز اللق

اسميْ عائشَة . . وهذهِ حكايتيْ ! (1)

ملاحظَة للقارئ قبلَ الشّروعِ في القرَاءَة: عائشَة حياتهَا. . صفحة بيضَاء جداً ! أشاركُ قليلاً من بيَاضها إيَّاك وأودعُ الباقيْ لهَا ولمن تحبّ .. إذا كنتَ تحملُ مسبقاً أيةَّ "مخلّفات داخليَّة سوداء" فالرجَاء عدم القرَاءة حولَ عائشَة: عائشَة .. قد تكُون أنا أو قد تكُونُ أنتَ .. وليس بالضرُورَة أن تكُونَ من تقرأ لها الآنَ في هذهِ المدوّنة قد يتضمّنُ أدناهُ حكَاياتِي أنا .. وقد يكُون خليطاً من حكاياتِ صديقاتٍ أخريَات .. أجمعها في حياةٍ واحدَة حافلة تستحقُ أن يمتلكَ صاحبها حلماً جميلاً عائشَة التيْ أحكي عنها هنَا.. كائنٌ يحلمُ بحياةٍ جميلة رغمَ يقينها أنّ الحياة لن تكونَ ذلك بالضرُورة .. وهي فتاة ٌ بسيطَة جداً .. يحكيْ بعضهُم .. أنّها لا تزالُ طفلة ً ترفضُ أن تكبر .. ويقولونَ أنّها تحوَّلتْ إلى زوجةٍ عاديةٍ غارقةٍ في تفاصيلِ حياتهَا اليوميَّة بعد زواجها .. يقولُ بعضهمْ أن عائشَة لم تعُد تهتمّ كثيراً بمن حولهَا .. وأنّها تحوَّلتْ -كآلافِ البشر حولنا- إلى كائنٍ غير معنيّ بالضرورة بجدالاتنا الثقافيَّة اليوميَّة المملة .. التيْ قد أثيرها أنا أو أنتَ أو عبيد أو جوخة أو علياء من المثقفي

قلْ لي أنت تعمل في الديوَان.. أقل لك كم جنَيت؟!

جارنَا أبو أحمَد .. الذي أخبرتكُم عنهُ ذات مرَّة .. الرّجل الصادق الصدوق الذي نذرَ نفسهُ ومالهُ في خدمَة الناس .. كانَ كلّما أخرج صدقة ً أو زكاة ً للناس .. جاءهُ أناسٌ أثرياء آخرون يطالبُون بنصيبهم من الزّكاة .. وذلك لقولهم أنّ أبا أحمد يوزّع معونات يصرفها الديوان لهؤلاء الفقراء .. يأتون طارقين الباب مطالبين بحقّهم قائلين: نريد نصيبنا من فلوس الديوان .. ورغم أنّ أبا أحمَد لم يتلقَ في حياتهِ فلساً لا من ديوَان السلطان ولا ديوَان هارون الرشيد .. إذ بنى نفسه بنفسه .. فامتهنّ كل المهن البسيطة التي لا تخطر على البال .. بدأ عصامياً وانتهى .. لا أقول ثرياً وإنما ميسور الحال .. أذكرُ أنّ امرأةً أعرفها وهي من قبيلة البوسعيد .. وهي من العوائل التي تستلم نهاية الشّهر راتباً شهرياً بثلاثَة أصفار لا لشيءٍ سوَى أنها تقرب لفلان العلانيّ الذي يشغل منصب مدير دائرة الصحون والملاعق في الديوان الفلاني أو البلاط العلاني وهي أيضاً "تصير ابنة عم ولد زوجة خال الوزير الفلاني" ذهبت تشتكي مرةً من أنّ أبا أحمد لابد أنه يتلقى مبالغ أكثر منها من الديوان فلا هو ابن سفير ولا ابن أخت زوجة الوزير ولا هو من أص