منْ منّا لم يكن يوماً في الحمّام .. يستمتعُ بدشّ دافئ .. تنهالُ الأفكارُ عليه ، وتبدأ الجمل في التوالي ، يكتبُ مقالاً جميلاً في رأسهِ .. وتنتظمُ الفكرَة تلو الأخرى .. غيرَ أنهُ بمجرّد خروجهِ من الحمّام يفقد الرغبة في كتابَة ما طرأ في بالهِ قبل قليلٍ .. أو تهربُ منهُ الأفكار بمجرّد أن يضعَ يديهِ على الكيبُورد يشعرُ أن الحمَاسة والمقال الرائع الذيْ هبّ عليهِ في الحمّام اختفَى.. وتلاشتْ كلّ جملهِ ولم يتبقّ منهُ شيء !
يحدثُ هذا كثيراً وأنتَ تقومُ بكيّ ملابسك .. وأنت تصلّي وأنت تقودُ السيّارة .. وتتمنّى حينهَا أن يكونَ بحوزتكَ هذا الاختراع السحريّ الذيْ يقومُ بتحويل أفكاركَ إلى جملٍ حقيقيّة مكتُوبة في الكمبيوتر دونَ أن تحتاج لتنظيمها وإعادة كتابتهَا يدوياً في الحاسب .. هكذا فقط .. تقُوم بإدخال USB إلى رأسكَ .. وفي الجانبِ المقابلِ تنتقلُ كل تلكَ المعلوماتِ الثمينَة إلى الكمبيوتر لتقُوم بحفظها والاستمتاع بقرَاءة المقال الجميل الذي زاركَ في الحمّام !
ألم يخطرْ في بالكَ يوماً .. تصميم سيّارة بشكلٍ مبتكر وجدتَ في لحظةٍ ما أنهُ ظهرَ في رأسك .. كانَ الشكلُ واضحاً جداً .. وجميلاً لكنّك بمجرّد أن أمسكتَ القلم فشلتْ قدراتك الفنيّة في رسمهِ يدوياً أو فشلتَ في رسمهِ في برنامج التصميم في الحاسب تماماً بنفسِ الصورة التي طرأت في رأسك؟
أعتقدُ أنّ الجميعَ مرّ بهذهِ التجربة مثليْ تماماً .. وكمْ تمنيتُ للحظَة واحدَة لو أنّ أملكُ القدرة على خلعِ دماغيْ كما فيْ أفلام هوليوود .. وإدخالهِ في صندوقٍ زجاجيّ يخرجُ كلّ المعلومات القيّمة منه ويحوّلها إلى صوت وصُورة وفيديو ..
هوليوود مليئة بهكذا خيالٍ علميّ لعلّ أبرزهُ في سلسلةِ أفلام Transformers وAliensوFantastic 4 وأفلام أخرى .. تصوّر العالم بتقنياتهِ الضّخمة التيْ تتحوّل فيها الأفكار غير المحسُوسة إلى مادّة تقنيّة ..
ولعلّ أبرزها سلسلَة حلقات مسلسل The terminator حيثُ الآلة التي تحاربُ البشر .. وتظهرُ الآلة فيها بشكلٍ طبيعيّ كأيّ بشريٍ آخر .. إلا أنّ هذهِ الآلة بمجرّد أن تفتحَ غشاء ما تحتَ الجلد في جمجمتها ستجدُ أنها عبارَة عنْ أسلاك معدنيّة ومعدّات الكترونيّة .. ولأجلِ ذلك لا يبدُو غريباً حينَ يقومُ جون كُونور بطل المسلسل باستكشَاف نوايا إحدى الآلات البشرية التيْ حاولتْ مهاجمتهُ وذلكَ بنزع رقاقتها الالكترونيّة التيْ تعملُ فيها عمل الدماغ ومنْ ثمّ إدخالها في كمبيوترهِ الشخصيّ ليقُوم بفتح الملفّات المخزنَة في الرقاقة .. ومنْ ثمّ تعطيب الرقاقة لأنها تعمل على تشغيلِ نفسها بنفسها وإعادة تكوينِ الآلة مرةً أخرى .. إننا نشاهدُ مسلسلاتٍ كهذهِ ونفكّرُ أنّ العالمَ أصبحَ قريباً من حلّ لغزِ الدماغِ البشريّ وتحقيقِ هذهِ الأمنيَة الملحّة التيْ ستحلّ كثيراً من مشاكلنا الشخصيّة أبرزها النسيان ..
تخيّل أنّك تدرسُ الهندسَة لخمسِ سنوات أو تدرسُ الطبّ لسبعِ سنواتٍ غيرَ أنّك حين تتخرّج لا تحتفظُ بكلّ ما درستهُ وربّما تنسَى المادّة التي درستها بمجرّد مرورِ شهرٍ واحدٍ على امتحانكَ النهائيّ بها .. هذا يحدثُ لأغلبنا بمعرفَة أنّ العقلَ البشريّ يقومُ باستقبال آلاف المعلوماتِ في اليَوم الواحد والتيْ تحتفظُ فقط ب50% منها في مدَى زمنيّ قصير قد يترَاوح بين دقائق ليومٍ كامل يدخلُ الانسانُ بعدها في دوّامة استقبال معلومات أخرى يخزّن منها النّصف أو أقلّ ثمّ تهربُ من رأسهِ ..
الجميعُ يودّ الاحتفاظ بكلّ معلومَة درَسها بدءاً من مرحلتهِ الابتدائيّة حتّى مراحلِ دراستهِ الأولَى وحتّى أثناء عملهِ غيرَ أننا غيرُ قادرينَ على ذلك .. لأنّ ثمّة قاعدَة أساسيّة للحفظِ درسَها العلمَاء .. تقولُ أنّ المعلومَة لكيْ تصبحَ عصيّة على النسيانِ ينبغيْ أن ترَاجع بعدَ 10 دقائق من استقبالها من قبلِ الانسانِ ثمّ ساعَة فأربع وعشرين ساعَة فيومين .. فخمسة أيّام فأسبوعين فشهر .. ثمّ كل شهرين فستة أشهر .. غيرَ أنّ أياً منّا غير قادرٍ على أن يحتفظَ بكلّ المعلومات التيْ يتلقّاها ثمّ يطبّق قاعدَة الحفظِ هذهِ معها بمعرفَة أنهُ يستقبلُ آلاف المعلوماتِ يومياً ناهيكَ عنْ أننا نتحدّث عن معلومَات غير مركّبة كالتيْ يتلقّاها الرياضيُون والمهندسُون كطريقَة حلّ مسألة معقّدة أو حفظ جزءٍ معقّد من أجزاء الانسانِ أو تحليلِ دائرَة كهربائيّة في جهازٍ آليّ تمثّل جميعُ هذهِ النماذج منظومَة معلوماتيّة مركّبة من المعلومَات البسيطَة المسمّاة information units ..
أمورٌ كهذهِ لا يمكنُ أن يتعاطَى الانسانُ معهَا بدونِ الوحدَة الأساسيّة التيْ لا يستطيعُ التفاعل دونهَا كبشريّ وهيَ الدّماغ ..
هذا الجزءُ الصغيرُ من الانسَان المكوّن من ملياراتِ الخلايا العصبيّة المتفرّع كلٌ منها لآلاف الأعصاب التيْ تؤدّي مئاتِ الآلاف من المهمّات في وقتٍ واحد.. هذهِ الأعصاب لوْ قامَ العلماءِ بمدّها على خطٍ طويل لتعدّت المائتي ألفِ كيلُومتر .. أيْ أنّنا لوْ أمسكنا أعصَاب مخّ واحدٍ لشخصٍ ما بيننا فإننا سنمدّ هذهِ الأعصاب حتّى نصلَ إلى مسافَة أعلَى منْ أعلَى قمّة في العالم وهيَ قمّة أفرست .. سنصلُ لمسَافة تضَاعفها ب23ألف مرّة ! تخيّلوا! مسافَة تقلّ بقليل عن بعدِ الأرضِ والقمر !
هذا الجزء الصغير الذيْ لا يشكّل أكثر من 2% من كتلةِ الانسانِ ومع ذلك فهوَ يستهلكُ حوالي 25% منْ الأكسجين الذيْ يدخلُ الجسد .. وهوَ يتفاعلُ مع كلّ جزئيّة صغيرَة من جسدكَ فيْ عمليّة معقّدة للغايَة تجعلكَ مندهشاً من إعجازِ عملِ هذا الجهاز الصّغير جداً !
إنّ أسهلَ مثالٍ لضربِ مدى حساسيّة هذا الجهاز ما يضربهُ أحدُ أطبّاء الأعصاب في مجلّة آفاق علميّة هوَ تخيّلك لطفلك وهوَ يدغدغك .. ستقُوم بالضّحك وبشدّة .. إلا أنّك إذا دغدغتَ نفسكَ فإنّك لن تضحكَ لأنّ هنالك إشاراتٍ عصبيّة عملتْ في اللحظةِ التيْ فكّرت فيها بدغدغةِ نفسك بأنّ هذهِ الدغدغة تنبيهٌ متوقّع منكَ ولا حاجَة لأيّ ردّة فعلٍ أو استثَارة للجسم .. وبالتاليْ إنّ خلايا الضّحك لنْ تستثار كردّة فعلٍ تلقائيّة للدغدغة إلا إنْ تصنّعت الضّحكَ طبعاً !
ويعرفُ علمَاء الأعصَاب أوّل ثلاثين سنَة منْ عُمر الانسان بأنّها ذروَة تصاعُد النشاطِ الدماغيّ لكَ .. إلا أنّ هذهِ الذروَة تبدأ في الانتكَاس بمجرّد بلوغكَ الأربعين وذلكَ بفعل ما يسمّى بالترسّب العصبيّ وهيَ تكوّن طبقَة على العصَب نفسهِ .. طبقَة مصنُوعة من مادَة عازلَة تعرقلُ وصولَ الإشاراتِ الدماغيّة إليهِ أو خروجها منهُ ..
تماماً مثلَ الصّدأ الذيْ يعلُو الموصّلات المعدنيّة .. ومعَ تراكُم هذهِ الطبقَة يبدُأ استيعابُ الانسانِ في التردّي وقدرتهُ على الحفظِ في التعبِ .. كمَا أنّ استجاباتهِ للمثيرَات العصبيّة حولهُ تصبحُ أبطأ ..
ظلّ العلماءُ لسنوَاتٍ طويلَة في حيرَة شديدةٍ أمام هذا الجزءِ المثير للدهشَة ! فرغمَ كلّ التكنولوجيا والعلُوم التيْ صنعها الانسانُ إلا أنه لم يستطعْ تصميمَ نظامٍ بدقّة الدماغ وبطريقةِ عملهِ المعقّدة .. أن يديرَ في نفسِ الوقتِ آلاف العمليّات بجيشٍ من ملياراتِ الخلايا العصبيّة التيْ لمْ يستطع الانسانُ أن يصنعَ نظيراً لها كلوحَة كهربائيّة لا تتعدّى الألف دائرَة كهربائيّة دونَ أن يصيبها العطَب ..
وقدْ حاولَ العلمَاء ، في سعيهمُ المضنيْ لحفظِ المعرفَة البشريّة وعدمِ موتها بموتِ أصحابها .. وذلكَ برحيلِ علمِ أيّ عالمٍ بمجرّد موتهِ وإنّما الاحتفاظ بكلّ معرفتهِ وعبقريّتهِ وترحيلها منْ جيلٍ إلى جيلٍ من خلالِ إبقاءِ دماغهِ ونقل المعلوماتِ منه بعدَ موتهِ .. وهوَ ما أمّل العلمَاءُ في تحقيقهِ بموتِ نابغَة الفيزياء الذيْ لم يظهرْ له نظِير.. ألبرت آينشتاين .. الاحتفاظُ بدماغ آلبرت آينشتاين ، كانَ أملاً في فكّ رموز وشفرات دماغهِ البشريّ الذيْ خرجَ بقانونِ الفيزياءِ العظيم الذيْ يقولُ أن الطاقَة تساويْ كتلَة المادّة مضروبة فيْ مربّع سرعَة الضّوء .. ومنذُ رحيلِ آينشتاين عام 1955م أيْ بعدَ مرورِ ما يزيدُ على 55 عاماً من وفاتهِ وإخرَاج دماغهِ إلا أنّ العلماء لمْ يستطيعُوا حتّى اليَوم نقلَ معرفتهِ العقليّة من دماغهِ الذيْ لا يزَالُ يرقدُ حتّى لحظَة كتابة هذا المقال في إحدَى المعامل الطبيّة بمستشفَى أميركيّ ولمْ ييأس العلماء للحظَة من أملِ تحليلِ دماغهِ وانثناءاتهِ واستخدامهَا في الوصُول إلى صيغَة معيّنة لمعرفَة سبب عبقريّة آينشتاين ..
واليَوم وبعدَ إعلانِ بيل جيتسْ رغبتهُ بالتبرّع بدماغهِ لإحدَى المعامل الطبيّة الأميركيّة بعد موتهِ لإجراء أبحاثٍ معيّنة عليها بخصُوص معرفَة سرّ عبقريّة العظمَاء ودراسَة إمكانيّة ترحيل المعرفَة من هذهِ الأدمغَة ونسخها إلى آلاف الأدمغَة البشريّة في الأجيالِ القادمَة .. نعرفُ أنّ أمامَ الانسان والعقلِ البشريّ شوطاً طويلاً ليفكَ أسرارَ هذَا الجزء العظيم منَ الانسان الذيْ لا يزَالُ العلمُ اليَوم في أطوَار دراستهِ الأولى لاستكشاف المعجزَة الإلهيّة التيْ استودعها اللهُ في الدّماغ ..
لا شيءَ أمامنا سوَى أن نأمل ، أن نعيشَ ذلكَ اليَوم الذيْ أستطيعُ خلالهُ أنْ أكتبَ مقاليْ هذا منْ عقليْ مباشرَة لأجدَ الأفكار التيْ برأسيْ تنتظم في شاشةٍ على الهوَاء تسجّل أفكاريْ فيخرجُ مقالُ ردهَات مباشرةً من عقليْ إلى تلكَ الشاشَة ، أعدّل الفكرَة أو أمسحها دونَ أنْ أكلّف نفسيْ بالضّغط على أيّ زرّ في الكيبُورد .. ألنْ يكونَ ذلكَ رائعاً !
5 قيم تعلمتُها من أميّ: غزالة بنت ناصر الكندية عائشة السيفي صبيحَة يوم الأحد غسلتُ أمي وكفنتها مع أخواتي. جهزتُ لها لبسةً من حرير فأبلغتني المكفنةُ أن علي أن آتي بلبسة من قطن تخلو من الزركشة. اخترتُ لها أجمل ملابسها وبخرتُها كما كنت أبخر ملابسها لعشرات السنوات كل عيد. أذنتُ في أذنيها، وتأملت أصابعها المنفرجة وأنا أضع بينها الصندل. كانت كقطعة الحرير ببشرتها الصافية وكنت أحدثها: ما أجملك حيةً وما أجملك ميتة. كان مشهداً عظيماً لا أعرف كيف ألهمني الله لأعيشه. أعرفُ أنني كنت شاخصة العينين ولا أذكر أنني بكيت كثيرا.. كانت دموعي تنهمر بصمت إلى أن حملوها في الطارقة وتواروا عن الأنظار. لا أذكر كثيرا مما حدث بعدها فقد سقطتُ طريحة الفراش ليومين. ماتت أمي غزالة بنت ناصر الكندية بعد رحلة ثماني سنواتٍ ويزيد مع مرضٍ لعين اسمهُ ملتي سيستم أتروفي. ومنذ جرى تشخيصها، جُبنا بها أطباء العالم لعلنا نجدُ لها علاجاً فكانت النتيجة واحدة: إنه مرض نهايته الموت، الفارق فقط هو حتى متى سيعيش صاحبه. لسنواتٍ عاشت أمي وعشنا معها معاناةٍ مريرة لا يعلمها إلا الله ونحنُ نتأمل بعجزٍ شديد كيف كانت تنتقل من وهنٍ
تعليقات
إرسال تعليق