التخطي إلى المحتوى الرئيسي

تحرّش / ردهَات !




هكذا يفعُلونهـَا .. بصمت !

عائشَة السيفيّ


أكرهُ الأماكن المزدحمة .. رغمَ أنها الأنسبُ دائماً لالتقاط فكرَة للكتابة من موقفٍ يحدثُ هنا أو هناك .. ورغمَ أنني دائماً أتهرّب من أيّ مكانٍ قد يضطرني لحشرِ نفسي حشراً بين الأجساد الكثيرة السائرة يميناً ويساراً إلا أنني أحياناً أجدني مضطّرة لذلك..
صباح اليَوم ذهبتُ للتسوّق في إحدى المراكز التجاريّة بمدينتي الصغيرَة .. كانتْ فرصَة لمشاهدَة هوسِ الشّراء والهستيريا التيْ تصيبنا قبلَ رمضان ..

المكانُ ضيّق .. والأجسادُ كثيرَة .. يضطرّ الانسانُ إلى الارتماء على هذَا الجدار وذاك كي يفسحَ المجالَ لعربَات التسوّق الرازحَة تحتَ وطأة الثقل بالمرور، ينبغيْ أن يضعُوا إشاراتِ مرور داخل المراكز التجاريّة في أوقاتٍ كهذهِ .. الظهُور منحنيّة وموجوعة وهيَ تدفع بعربَات التسوّق إلى الأمام .. وصراخ الأطفال يهزّ المكان ! بدا الأمرُ مزعجاً للغاية ..
افترقتُ عن شقيقتي التيْ ذهبت لتملأ قائمَة ما تريدُ من أغراضِ المنزلِ وتوجّهتُ كعادتي إلى قسم الملابس النسائيّة حيثُ يحلو لي الذّهابُ دائماً .. قلتُ في نفسي سيكُون الوضعُ هنالك أفضَل بالنظرِ إلى أنّ الناس لا يأكلُون "الملابس" في رمضَان غيرَ أنني فوجئتُ بأنّ ركن الملابسِ قد تحوّل إلى ركنٍ للملابسِ المدرسيّة والحقائبِ وغيرها .. وتذكّرتُ أنني نسيتُ ضجيج الاستعدادِ للمدارسِ منذُ 4 سنوَاتٍ مضت ..
بدأتُ في السيرِ بغير هدَى .. فأنا أتيتُ في المقام الأوّل للغرضِ السابق وشعرتُ بالضيَاع وأنا أنأى بجسدي عن الاصطدام بهذا الجسدِ أو ذاك .. أخذتُ ركناً قصياً فارغاً بعيداً عن حمّى الأغراض.. يسمحُ لي بالنظَر إلى الجيش القادم المتحرّك بأسلحتهِ المدجّجة (العربات) أمامي وقلتُ : يا بنت .. اسمعي وانظري وعي .. ربما تنبتُ فكرةٌ من التمتّع بهذا المشهَد المهيب .. فكرة مقال لردهَات .. فكرَة لمدوّنتك الـBrand New .. فكرَة نصّ .. إن شاء الله فكرَة بطّيخ ! المهم لابد أنْ تخرجي بفكرة ما .. الحقيقة أنني لم أكنِ انتهَيتُ بعد من موضوعِ الأفكار هذهِ حتّى قطعت دهشتيْ يدُ طفلٍ في .. في الحادية عشرَة من عمره .. لا أدري ربّما أكبر بعامٍ أو عامَين على الأقصى وهي تتحسّس موضعاً حسّاساً من جسَدِ امرأةٍ مرّت بجانبهِ.. جفلت المرأة وحدّقت يميناً ويساراً إلا أنّ الطفل أو الصبيّ لا أدري ما أسمّيه كانَ قد اختفى بينَ الجمُوع .. الحقيقَة أنّ آخر مرّة رأيتُ فيها طفلاً يتحرّش "جنسياً" بامرأة قبلَ عامٍ ونصف .. لكنّ هذا المشهد تكرّر أمامي في ذلك الوقت .. هذا الطفلُ الذي رأيتهُ أمامي كانَ طولهُ ربّما متر وقليل .. نعَم ! ليسَ أكثر من مترٍ وقليل .. وقد بدأت عليهِ ملامحُ الطفُولة مع قليلٍ من ملامح النّضج..

شعرتُ بالألمِ لتلكَ المرأة .. أعرفُ تماماً شعورَ المرأة التي يتمّ التحرّش بها .. التحرّش اللفظيّ رغمَ أنهُ الأقلّ لكنّه مؤذٍ للغاية لنفسيّة المرأة ، فما بالك أن تجدَ المرأة يداً تتطفّل على جسدهَا وتعاملهُ كأنّه "آلة عابرَة للمتعَة" !
وتعرفُون تلكَ المرأة؟ لقد بدت في الأربعين أو يزيد .. ويبدُو أنّها أمّ ، وتخيّلوا كان زوجهَا معها .. ومع ذلكَ فإنّ ذلكَ لم يمنعْ هذا "الطّفل المتحرِّش" بأن يفعلَ فعلتهُ الشائنَة ويهرب .. أليسَ ذلكَ مخزٍ؟

الحقيقَة أنني ظللتُ متجمّدة في مكاني لغايَة أن اتّصلت بي أختي .. وكنتُ وأنا أتحرّك أتلفّتُ يميناً ويساراً حولي خوفَ أن يتكرّر أمامي ما حدّث .. كنتُ ألصقُ جسديْ بالجدارِ لصقاً ورأسي لا يتوقّف عن النظرِ للخلفِ خوفَ أن يباغتني أحدهُم ويلوذَ بالفرار وخرجتُ وأنا أتنفّس الصعداء ولسانُ حالي يقول .. لن أدخلَ أيّ مركزِ تسوّق بعد اليَوم إن كانَ مزدحماً هكذا ..

حسناً .. ستقولونَ : أنّ أيّ امرأة تضعُ نفسها في هكذا موقف هي مسؤولَة لأنها اختارت أنْ تذهبَ إلى ذلك المكان المزدحم وذلك التوقيت المزدَحم وأنهُ لا ينبغيْ على المرأة أساساً أن تضع نفسها هنالك .. لكنّني أقولُ لكُم أنّ هذا أيضاً ليسَ صحيحاً دائماً ..
أذكرُ مرّة ً أنيْ كنتُ قد أنهيتُ تسوّقي من مركزِ تسوّق وكنتُ أنتظرُ شقيقي خارجهُ .. وفيما كنتُ منسجمةً في النظرِ إلى الخارجينَ .. سمعتُ صراخ امرأة وهي تكيلُ السبّ والشتم لشابٍ سرعان ما أسرعَ الخطَى واختفَى من أنظارنا.. هالني الموقفُ فتوجّهتُ إليها .. وهدّأتها .. ودونَ أن أطلبَ منها الحديث قالتْ وهي ترتجفُ : "هذا الـ(.......) ، تخيّلي للمرّة الثالثة يقتربُ مني ويضعُ يدهُ على (.........) المرّة الأولى ظننتهُ لا يقصد ، لكنني جفلتُ منه وتوجّهتُ إلى مكانٍ بعيد وفيما كنتُ منشغلة ً بتناول غرضٍ من أحد الأرفف جاءَ مرّة ً أخرى ولمسني، شعرتُ بيدهِ تخترقني ! كانَ يفعلها باحتراف .. ويدهُ الأخرى على الهاتف كي لا ينتبهَ أيّ أحد .. شعرتُ بالرّعب فقطعتُ تسوّقي وذهبتُ إلى المحاسبِ كي أغادرَ بسرعة ، وعيناي تلتفانَ يميناً ويساراً خوفَ أن يلحقني ، ورأيتهُ كانَ يحومُ من بعيد متظاهراً بالحديث في الهاتف، وشعرتُ أنّ مسلسلَ الرّعب لم ينتهِ بعدُ ! أنهيتُ تسوّقي بسرعة وغادرتُ وأنا في السّلم المؤدي إلى خارج مركزِ التسوّق اقتربَ من خلفي ولمسنيْ أيضاً " انتهَى حديثها وحاولتُ مواساتها ببعضِ الكلمات المتفكّكة منّي ! لم يكنِ المركزُ مزدحماً على الإطلاق ومعَ ذلكَ فهذا "المتحرّش المحترف" استطاعَ التحرّش بنفسِ المرأة لثلاث مرّات مقتنصاً الوقتَ المثاليّ ليفعلَ ذلك دونَ أن يلمحهُ أحد .. لم يتبادل مع ضحيّته أيّ جملة ولا حتّى التقت عيناهما .. كانَ يمارسُ تحرّشه ولذّته المريضة ويغادرُ سريعاً !

أتذكّرُ شكلَ ذلك الشابّ جيداً .. ولو رأيتهُ في أيّ مكانٍ آخر غير ذلك المكان لاحترمتهُ من النظرةِ الأولى ! إذ لمْ يكن أيٌ من مظهرهِ يدلّ على أنهُ متحرّش باحتراف ..
كانَ حليقَ الشّعر غير طويلٍ كما اعتدنا من مظاهرِ الشّباب الطائشين .. دشداشتهُ بيضاء ويلبس كمّة عمانيّة ، وكانتْ لهُ لحيَة خفيفة.. كان مهندماً بطريقَة مهذّبة جداً بحيثُ لا يصدّق أيٌ من يراهُ بأنّهُ بطلُ ما روتهُ تلك الفتاة المسكينة !
كثيراً ما فتحتُ وصديقاتيْ نقاشاً حول هذهِ الأمور وجميعُهنّ يجمعنَ على أنهنّ تعرّضن للتحرّش اللفظي أمّا المؤلمُ أكثر في هذا الأمرِ أنهُ لا تكادُ أيٌ منهنٌ لم تتعرّض يوماً لتحرّشٍ جسديّ من صنفِ ما سردتُ أعلاهُ ! وأنّ أغلبهنّ لم يستطعنَ الإمساك بمن يتحرّشون بهم أو التبليغ عنهنّ لرغبتهنّ الشخصيّة أحياناً مداراةً للفضيحة وأحياناً لقدرَة هؤلاء في الاختفاء بسرعَة
هلْ هي ظاهرَة؟ لا أدري فلستُ مختصّة اجتماعيّة بهذا الشأن ، إلا أنّني أنقلُ تجارب من حولي وتجاربَ رأيتها بعيني..

هؤلاء المتحرّشين ليسُوا –كقصصِ المسلسلات- قادمِين من أبوين مطلّقين ، وليسُوا كما في الأفلام الأميركيّة قد تعرّضوا للتحرّش في صغرهم ، وليسُوا كذلكَ كما في قصصِ الجريمَة المفبركَة حشّاشين أو مدمني كحول ومخدّرات ..
هؤلاءِ يعيشُون بيننا ، ربّما يأكلُون معنا ويعملُون معنا ، يمارسُون الحياة على وجهِها الطبيعيّ.. وهؤلاء محترفُون تماماً للحدّ الذي لا تصدّق أنّهم قد يؤذون أحداً .. ذلك الطفل القصير الذي غلبتْ عليهِ ملامح الطفُولة أكثر من ملامح النّضج ، وذلكَ الشابّ المهندم بلحيتهِ ودشداشتهِ البيضاء وشعرهِ الحليق ! هؤلاءِ نتاجُ سُعار جنسيّ يقابلهُ كبتٌ على الجانبِ الآخر .. لا تتوقّفُ لعنتهُ على النساءِ فقط بلْ يتعدّاه للتحرّش بالأطفالِ وربّما الرجال أنفسهِم.. فإلى أين سيصلُ بنا؟ ومن يُوقفهم؟


تعليقات

  1. الحمد لله


    وجدنا مكاناً نقرأ فيه عائشة

    ردحذف
  2. إنها الـ"لا" والممنوع المتراكمة في خزائن تجاربهم.. الكبت الديني والاجتماعي.. أو فلنقل جرائمهما!

    ردحذف
  3. فاتحة جَميلة .. بانتظارك دائما ..

    ردحذف
  4. أنه الكبت بكل صوره وأشكاله..

    خالد

    ردحذف
  5. جميل
    موضوع جميل وخطير

    ردحذف
  6. أيها الأصدِقاء ..
    الذينَ أعرفُ والذينَ لا أعرف..

    مودّتي لكم جميعاً
    وإذن نحنُ نتفقُ أنهُ الكبت .. رغمَ أنني لا أجدُ وصفاً لشخصٍ يحترفُ تحسّس أجساد النساء في 5ثوانٍ سوَى أنه مريض نفسيّ !

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

إذا تريدوا ملابس العيد، روحوا رقطوا (1)

5 قيم تعلمتُها من أميّ: غزالة بنت ناصر الكندية   عائشة السيفي صبيحَة يوم الأحد غسلتُ أمي وكفنتها مع أخواتي. جهزتُ لها لبسةً من حرير فأبلغتني المكفنةُ أن علي أن آتي بلبسة من قطن تخلو من الزركشة. اخترتُ لها أجمل ملابسها وبخرتُها كما كنت أبخر ملابسها لعشرات السنوات كل عيد. أذنتُ في أذنيها، وتأملت أصابعها المنفرجة وأنا أضع بينها الصندل. كانت كقطعة الحرير ببشرتها الصافية وكنت أحدثها: ما أجملك حيةً وما أجملك ميتة. كان مشهداً عظيماً لا أعرف كيف ألهمني الله لأعيشه. أعرفُ أنني كنت شاخصة العينين ولا أذكر أنني بكيت كثيرا.. كانت دموعي تنهمر بصمت إلى أن حملوها في الطارقة وتواروا عن الأنظار. لا أذكر كثيرا مما حدث بعدها فقد سقطتُ طريحة الفراش ليومين. ماتت أمي غزالة بنت ناصر الكندية بعد رحلة ثماني سنواتٍ ويزيد مع مرضٍ لعين اسمهُ ملتي سيستم أتروفي. ومنذ جرى تشخيصها، جُبنا بها أطباء العالم لعلنا نجدُ لها علاجاً فكانت النتيجة واحدة: إنه مرض نهايته الموت، الفارق فقط هو حتى متى سيعيش صاحبه. لسنواتٍ عاشت أمي وعشنا معها معاناةٍ مريرة لا يعلمها إلا الله ونحنُ نتأمل بعجزٍ شديد كيف كانت تنتقل من وهنٍ

اسميْ عائشَة . . وهذهِ حكايتيْ ! (1)

ملاحظَة للقارئ قبلَ الشّروعِ في القرَاءَة: عائشَة حياتهَا. . صفحة بيضَاء جداً ! أشاركُ قليلاً من بيَاضها إيَّاك وأودعُ الباقيْ لهَا ولمن تحبّ .. إذا كنتَ تحملُ مسبقاً أيةَّ "مخلّفات داخليَّة سوداء" فالرجَاء عدم القرَاءة حولَ عائشَة: عائشَة .. قد تكُون أنا أو قد تكُونُ أنتَ .. وليس بالضرُورَة أن تكُونَ من تقرأ لها الآنَ في هذهِ المدوّنة قد يتضمّنُ أدناهُ حكَاياتِي أنا .. وقد يكُون خليطاً من حكاياتِ صديقاتٍ أخريَات .. أجمعها في حياةٍ واحدَة حافلة تستحقُ أن يمتلكَ صاحبها حلماً جميلاً عائشَة التيْ أحكي عنها هنَا.. كائنٌ يحلمُ بحياةٍ جميلة رغمَ يقينها أنّ الحياة لن تكونَ ذلك بالضرُورة .. وهي فتاة ٌ بسيطَة جداً .. يحكيْ بعضهُم .. أنّها لا تزالُ طفلة ً ترفضُ أن تكبر .. ويقولونَ أنّها تحوَّلتْ إلى زوجةٍ عاديةٍ غارقةٍ في تفاصيلِ حياتهَا اليوميَّة بعد زواجها .. يقولُ بعضهمْ أن عائشَة لم تعُد تهتمّ كثيراً بمن حولهَا .. وأنّها تحوَّلتْ -كآلافِ البشر حولنا- إلى كائنٍ غير معنيّ بالضرورة بجدالاتنا الثقافيَّة اليوميَّة المملة .. التيْ قد أثيرها أنا أو أنتَ أو عبيد أو جوخة أو علياء من المثقفي

عن كُورونا، وفقر اللقاح، والشّعب العُمانيّ القنوع: أسئلة غير قنُوعة إطلاقاً

  تحذير: إن كنت لا تحب لغة الأرقام فلا تقرأ هذا المقال   في نُوفمبر 2020، سألتُ مارجي فان جوخ، رئيسَة وحدة المواصلات واللوجيستيات في المنتدى الاقتصادي في دافوس عن استقرائها لشكلِ السباق العَالمي نحوَ اللقاح فأجابتني بأنّ حربَ اللقاحات قد بدأتْ بالفعل وأنّ كل دولة ستكونُ معنية بشعبها فحسب، وأنّ ثلاث عوَامل ستحددُ أسبقية الدول في الحصول على اللقاح، أولاً: ذكاء السياسيين في كلّ دولة وحنكتهم الدبلوماسية ستوضع تحتَ الامتحان الحقيقي لاختبار مِرَاسهم في التفاوض على أكبر عدد من الجرعات مستغلةً علاقاتها الدولية وشبكة معارفها للحصول على أكبر كمية بأسرع وقت ممكن، ثانياً: قدرة فرقهِم الاستراتيجيّة على استقراء مستقبل إنتاج اللقاح وأيٍ من شركات إنتاج اللقاح ستنتجُ أولاً وبفعالية تحصين أكبر وثالثاً: قدرتها المالية التي ستحدد مقدرتها على المخاطرة بشراء لقاحات لم تعتمد بعد بناءً على استقرائها للمستقبل، (إنّها مقامرَة عليهم اتخاذها وإلا فالنتائج وخيمة). معربةً عن قلقها من أنّ المرحلة القادمة ستفتقد المساواة في توزيع اللقاح. (عائشة، إنهم يجوبون العالم -بينمَا نتحدّثُ- بملايين من الكاش لحجز اللق